المؤتمر القومي العربي في الميزان : دراسة تقييمية

بقلم: لبيب قمحاوي

المؤتمر القومي العربي هو أحد مؤسسات العمل القومي الجماهيرية ، وقد تم عقد دورته الأولى في تونس عام 1990 ، أي قبل تسعة وعشرون عاماً ، فماذا أنجز هذا المؤتمر على مدى عقود ثلاثة ؟

تنبع أهمية المؤتمر كمنظمة عمل قومي شعبي من فشل باقي مؤسسات العمل القومي العربي أكثر من كونها نتيجة لنجاحه في تحقيق أهدافه ولتأثيره على مجرى الأحداث . ففي حقبة إنحسار الأحزاب القومية ، وَتَحُّولِها من مراكز جذب واستقطاب للعمل القومي الجماهيري إلى إمتداد لأنظمة حكم عسكرية إنقلابية مستبدة ، تزداد أهمية ما تبقى من مؤسسات العمل القومي على عِلاَّتها وبالرغم من إفتقارها لأي إنجاز حقيقي . ومن هنا تبرز أهمية أي دراسة نقدية تهدف إلى تصحيح مسار أي مؤسسة قومية وتجديد فعاليتها وتأثيرها في الحياة السياسية .

لقد كان من المأمول أن تقوم منظمة المؤتمر القومي العربي بملئ الفراغ الذي تركته تلك الأحزاب بإعتبار ذلك مهمة أساسية للحفاظ على الروح القومية بين أوساط الجماهير العربية ، وتوفير الآلية لكل الراغبين بالعمل القومي خصوصاً الأجيال الجديدة ، ولكن واقع الحال كان خلاف ذلك . وواكبت مسيرة المؤتمر القومي خَلَجَات من التفاؤل لتنتهي بخيبات أمل كبرى أصابت الكثيرين وأدت بالنتيجة إما إلى عُزُوفِهم عن الإنتساب لعضوية ذلك المؤتمر أو إنسحابهم من تلك العضوية .

يهدف المؤتمر القومي العربي حسب نظامه الأساسي إلى " الإسهام في شحذ الوعي العربي بأهداف الأمة المتمثلة في مشروعها الحضاري وهي : الوحدة العربية، والديموقراطية ، والتنمية المستقلة ، والعدالة الإجتماعية ، والإستقلال الوطني والقومي ، والتجدد الحضاري ، وتحقيق التفاعل بين الوحدويين العرب في إطار من التنوع والتكامل ، وتعبئة الطاقات الشعبية من أجل تحقيق هذه الأهداف ، واتخاذ المواقف المعبرة عنها ، وتوثيق روابط التعاون والتنسيق مع الهيئات المماثلة في أهدافها . "

وهنا يبرز السؤال الكبير ، ماذا حقق المؤتمر من تلك الأهداف ومتى ؟

علينا ، أن نعترف إبتداءً بأن الظروف السياسية السائدة في العالم العربي لم تكن مواتية بشكل عام للمؤتمر القومي العربي وأهدافه ، وأن مجرد عقد المؤتمر كان بالنسبة للبعض إنجازاً هاماً بحد ذاته . وهذا قد يكون أمراً صحيحاً ، ولكنه لا يكفي ولا يشكل مُبَرِراً لعدم الإنجاز .

تؤكد مسيرة المؤتمر القومي العربي على افتقاره إلى الإنجاز الحقيقي على المستوى الجماهيري للأمة وعلى مستوى الأحداث وكذلك الأهداف المرسومة له . إن من أهم أهداف المؤتمر هو " تحقيق التفاعل بين الوحدويين العرب في إطار من التنوع والتكامل " وهذا الهدف لم يتحقق إلا جزئياً وفي أضيق الحدود وبشكل غير مؤثر كون مثل ذلك التفاعل إقتصر على فترات إنعقاد المؤتمر الذي لم ينبثق عنه أية مؤسسات فعلية تساهم في تعزيز مثل ذلك التواصل والتفاعل ، ناهيك عن شَرْطَيْ التنوع والتكامل وهما شرطان تم العمل بهما في الحدود الدنيا وليس كهدفين رئيسيين. أما عن " تعبئة الطاقات الإجتماعية من أجل تحقيق أهداف المؤتمر وإتخاذ المواقف المعبرة عنها " فقد إقتصر ذلك على إصدار البيانات .

إن السبب الرئيسي لعدم الإنجاز يتمثل في رغبة مجموعة من مؤسسي المؤتمر في إحتكار السيطرة على المؤتمر وعلى إدارته سواء مباشرة أو من خلال أشخاص يَدينُون بالولاء لتلك المجموعة المهيمنة وذلك تحت شعار المحافظة عليه ، أي المؤتمر ، وعلى بقائه واستمراره، وهو مماثل للعذر الذي تستعمله العديد من الأنظمة العربية المستبدة لتبرير بقائها واستبدادها .

كان من المأمول أن يشكل المؤتمر القومي العربي رداً شعبياً على الإنهيار الرسمي العربي . ولكن الأمراض التي أصابت النظام الرسمي العربي هي نفس الأمراض التي أصابت المؤتمر القومي وأهمها إستبداد وتسلط مجموعة إعتبرت نفسها وصية على هذا المؤتمر وعلى بقائه واعتبرت أي محاولة لإبعَادِها مُخَاَطرَة تَمَسّْ مستقبل المؤتمر وقد تؤدي إلى تدميره .

لقد أكد مسار مجموعة القائمين على الأمور في منظمة المؤتمر القومي العربي رغبة واضحة في استمرار هيمنتهم وعزوفاً أوضح عن دعوات التجديد والتحديث خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى إخراج المؤتمر عن سيطرتهم . وهذا قد أدى في الواقع إما إلى ترك العديد من الشخصيات القومية لعضوية ذلك المؤتمر ، أو إمتناع العديد عن الدخول في عضويته إبتداءً . وقد ساهم كل ذلك في إفتقار المؤتمر إلى التوصل إلى إنجاز حقيقي بإستثناء ربما مجرد عَقْدِهِ وإصدار تقريره الدوري عن حال الأمة ، وهو التقرير الذي لم يكن في معظم الأحيان معبراً عن الواقع على حقيقته ، بقدر ما كان تعبيراً ، ولو جزئياً ، عن قناعات من قاموا بصياغته .

أما مداخلات الأعضاء ضمن أعمال المؤتمر فقد كانت بالنسبة للأوصياء عليه وسيلة لإعطاء جلسات المؤتمر مسحة من المظهر الديموقراطي ، وغالباً ما كانت تلك المداخلات تُعَامل إما بضيق ملحوظ أو بتجاهل تام خصوصاً إذا ما كانت تلك المداخلات تتعارض ورغبات الأوصياء أو مخططاتهم أو كيفية نظرتهم للأمور . وهو المسار قد أدى بالنتيجة إلى تصنيف أعضاء المؤتمر إما كمعارضين ( مشاغبين بالنسبة للأوصياء ) أو مؤيدين أو صامتين وهو ما يصف حال المؤتمر بشكل عام .

أما الإنتخابات فقد كانت في معظمها جزأً من المسار المغلق لنُخْبة الأوصياء الذين كان حرصهم على المحافظة على سيطرتهم أقوى من واجبهم في فسح المجال أمام الأكثر كفاءة وقدرة لتولي مواقع المسؤولية أو القيادة . وأي مراقب لعملية الإنتخاب ، خصوصاً لمنصب الأمين العام ، يشعر بالأسى لإنحدار قيم الديموقراطية والنزاهة في منظمة جماهيرية من المفروض أن تكون مثالاً على الإلتزام بالنهج الديموقراطي وأهمية التغيير وقُدْسية الإنجاز ، لصالح الحرص على إختيار أمين عام يدور في فلك الأوصياء ورغباتهم . ونفس الأمر ينطبق على الأمانة العامة للمؤتمر والتي يتم إختيار أعضائها بالإنتخاب والتعيين معاً مما يفسح المجال أمام الأوصياء لإبقاء سيطرتهم على مجرى الأمور قائماً من خلال تعيين جزءًا من أعضاء الأمانة العامة .

يميل معظم الأوصياء على المؤتمر إلى إستبعاد أو تجاهل الأعضاء الذين يُظهرون ميلاً واضحاً للنقد أو رغبة في التغيير بإعتبارهم خطراً على مفهوم الهيمنة على المؤتمر. والموضوع هنا ليس موضوع سياسات بقدر ما هو موضوع سيطرة على المنظمة نفسها بإعتبار أن المنظمة تمثل نهجاً قومياً عربياً ولا تمثل سياسات ، وإن كانت في بعض الأحيان تقترب إلى حافة الخطر في علاقة بعض رمزوها مع بعض الأنظمة القومية !

لقد فشل المؤتمر القومي العربي في التعامل مع قضايا في غاية الخطورة والأهمية لمستقبل الأمة العربية خصوصاً تلك المتعلقة بمستقبل الإنتماء القومي في ظل تغول أنظمة عربية معادية في أهدافها لأي مد قومي ناهيك عن الإنتماء القومي نفسه . كما فشل المؤتمر في طرح رؤى جديدة لمستقبل الأمة والإنتماء القومي مثل طرح قضية الهوية العربية الجامعة كخيار آخر لترجمة الإنتماء القومي والذي قد يأخذ أشكالاً متشددة أو إقصائية ، خصوصاً في ظل بروز قضايا مواطنين ومجموعات وأعراق هويتهم عربية ولكنهم ينتمون لقوميات أخرى مثل الأكراد أو الأرمن أو الأمازيغ ... إلخ . إن أهمية التعامل مع تلك الحقائق وبِجَدِّية تُعْتَبَر من صميم عمل منظمة المؤتمر القومي العربي ، ليس عن طريق البيانات ولكن عن طريق حوارات مشتركة تفاعليه تؤدي إلى الخروج برؤيا جديدة ، وفتح الباب أمام المفكرين العرب وتشجيع مناقشة هذه القضايا بصراحة والعمل على الخروج بتوصيات تفتح الباب أمام الآخرين لإيجاد حلول ابداعية لمثل هذه الإشكاليات . إن تجديد الفكر القومي هو من أهم واجبات ومسؤوليات المؤتمر القومي العربي ، ويجب تخصيص دورات خاصة لبحث هذا الموضوع ومواضيع أخرى مثيلة ، ولكن الأوصياء على المؤتمر إختياروا أن يبقى يلتق يلتصق المؤتمر بمساره التقليدي .

يدور المؤتمر القومي العربي الآن في فَلَك من تبقى من الأوصياء خصوصاً مع نجاحهم في تحويل تركيبة الجهاز الإداري الدائم للمؤتمر إلى امتداد لنفوذ الأوصياء مما جعل المؤتمر القومي العربي عملياً قاعدة سياسية لاؤلئك الأوصياء حصراً . والذكاء هنا يكمن في السيطرة على مقاليد الأمور من خلال ذلك الجهاز الدائم والمؤثر وغير المُنتخب . وهكذا أصبح الوضع في صورته النهائية أقرب ما يكون إلى التوارث العائلي للمناصب الإدارية المختلفة تحت شعارات وأعذار مثل ، ما هو البديل ؟ ومن على استعداد للتضحية بتولي مثل تلك المناصب ؟ إلى آخر ذلك من مبررات لا علاقة لها بعمل جماهيري قومي .

قد يكون مخيم الشباب القومي الإنجاز الأهم في مسيرة المؤتمر القومي العربي . وبالرغم من تواضع نتائج هذا الإنجاز وشح الموارد اللازمة لدعمه الا أنه يبقى الإنجاز الأهم الذي يستحق الدعم والثناء ، وإن كان لا يُبرر أو يُعْفي مجموعة الأوصياء من مسؤوليتهم في الخراب والجمود الذي أصاب المؤتمر القومي العربي وأضعف من الدعم المعنوي والمادي له .

لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن مؤسسات العمل الجماهيري والفكري قد تتعرض من خلال نهج التفرد والوصاية والإستبداد إلى نفس الأمراض التي تصيب الأنظمة المستبدة وأهمها مرض الفساد ، وهو التطور الأخطر في غياب القدرة على تداول السلطة أو المسؤولية وعدم قدرة القاعدة على محاسبة القيادة بشكل فَعَّال . إن هذا لا يشكل اتهاماً لأحد في المؤتمر القومي العربي بقدر ما يشكل جَرَساً للتنبية من ذلك الاحتمال ، خصوصاً بعدما أُصيبت مؤسسات قومية أخرى بالأهوال نتيجة للتفرد بالسلطة والفساد الذي رافق مسيرتها .

إن الفقر المادي لمنظمة المؤتمر القومي العربي لا يُشَكِّل ضمانة ضد الفساد ، لأن الفساد قد لا يأتي مادياً فقط وقد يأتي على أشكال أخرى منها إحتكار السلطة والقرار والمسار . والفقر المادي في حالة المؤتمر القومي العربي قد يفتح الباب أمام التساؤل عن أسبابه التي قد تعود إلى قناعة الكثيرين إما بوجود تَسَلُّط من قبل بعض الأوصياء أو نتيجة إفتقار المؤتمر إلى القدرة على إستقطاب المزيد من الدعم نتيجة لذلك التسلط بشكل أساسي ، وعدم قدرة المؤتمر على لعب دور مؤثر في دعم الحركة القومية والفكر القومي بين أوساط الجماهير العربية .

ومع أن المؤتمر قد فشل في لعب دورٍ مؤثر على مجرى السياسة العربية ، أو في خلق تيار جماهيري قومي مؤثر على الحكومـات في العالم العربـي، واكتفى فقط بأن يكون موجوداً ولكن على هامش الأحداث ، إلّا أن وجود منظمة المؤتمر القومي العربي يبقى في النهاية وفي كل الأحوال أفضل من عَدَمِهِ .

بقلم/ د. لبيب قمحاوي