ما حدث في موسكو كان صادماً. ضاعت البلاغة وتراجعت الآمال وعقدت الحواجب واكفهرت الوجوه وتبدلت الأحوال، ولم تكن كل البشائر السابقة إلا أغنيات حزينة في أوقات خاطئة. هذه المرة لم يكن الأمر يتعلق بالمصالحة التي لا يريد لها البعض أن تتحقق وتبدو عزيزة بعيدة المنال بفضل التمسك ببقرة الانقسام المقدسة. كما لم يكن الأمر يتعلق بالتفاصيل الباهتة لعالم المصالحة المستقبلي والخلافات الفرعية، ناهيك عن الخلاف العميق حول الأصول، كما لم يكن شيء من الماضي يستعاد فيشوش صفاء اللحظة ويعكر المزاج. كان إلى جانب كل ذلك ربما شيء أكثر عمقاً، وربما أكثر خطورة على المستقبل وسيلقي بظلاله في كل اتجاه بعد ذلك.
النقاش الذي لم يكن له لزوم حول منظمة التحرير، الذي أثاره بعض من حضر لقاء موسكو، يعكس حقيقة قصور الوعي وتجنح الفكر بعيداً عن الوطنية والوطن. هناك من أراد أن يعيد الزمن إلى الوراء، أو أن هناك من أراد أن يفجر كل شيء حتى لا يحدث أي شيء. صحيح أن لقاء موسكو لم يكن أكثر من ندوة سياسية يستضيفها مركز الاستشراق الروسي في وزارة الخارجية الروسية وهي ندوة ذات أهمية بالغة مع هذا، لكن لم نكن بحاجة لكل هذا النقاش أمام الآخرين، ولم نكن بحاجة لمثل هذا الصراع والشقاق حول شيء هو في الأصول. كان ذلك مؤلماً وسيظل.
منظمة التحرير ليست بحاجة لمن يدافع عنها، بل إن هؤلاء الذين حاولوا المساس بمكانتها في محفل وندوة سياسية هم بحاجة لمن يدافع عنهم. لأن منظمة التحرير صاحبة التاريخ والحاضر وواضعة أسس المستقبل ليست متهمة لأن هذا الحزب الجديد أو ذلك الوافد الجديد إلى المشهد السياسي الفلسطيني قاصر عن أن يرى كل ذلك. منظمة التحرير لم تكتسب أهميتها بالخطابة ولا هي نزلت حجراً من السماء فوق رؤوس الناس، كما أنها لم تكتسب موقعها بقرار فوقي من جهة خارج إرادة الشعب ولا جاءت نتيجة انقلاب خارجي، أيضاً هي ليست بالشيء الغريب عن المجتمع وتقاليده وطرق تفاعله السياسي. إنها المؤسسة الشرعية بامتياز لهذا الشعب. لماذا؟
لأنها حملت لواء الدفاع عنه. صحيح أنها تأسست في البداية بقرار من جامعة الدولة العربية لكن حتى القرار العربي جاء لاحتواء البحث الفلسطيني عن تمثيله الخاص بعدما نكب الشعب؛ جراء رهن قراره بيد غيره. وعليه إن تأسيسها كان تلبية لحاجة ذاتية فلسطينية. وحتى حين تم إطلاقها والشعب يلملم آثار النكبة وندوبها ما زالت غائرة في جسده، فإنها كانت التعبير الأكثر بروزاً عن كل الألم والأمل، عن الخيبة والرجاء، عن الماضي والبحث عن المستقبل. كانت منظمة التحرير عبارة عن حلم يبحث عمّن يحقق تطلعاته وخيالات ليله. وعليه فهي كانت امتزاجاً للفكرة مع العمل الدؤوب لتحقيقها وهي تعبير شفاف عن الحلم الفلسطيني.
إلى أن جاءت قوى المقاومة الفلسطينية وانطلقت الثورة الفلسطينية بزعامة مجموعة من الشبان المغامرين الحالمين الذين آمنوا أن طريق العودة لا يخط إلا بالكفاح، لا بالرجاء. كانت الثورة ترجمة فعلية للبحث عن امتزاج الحلم بالعمل، الحلم بحاجة لمن يعمل على تحقيقه لأنه لا يتحقق وأنت جالس في البيت. من هنا جاءت الثورة وفصائلها لتعبر عن هذا النضال من أجل تجسيد الحلم. ولم يمض وقت حتى أصبحت قوى الثورة هي صاحبة الكلمة العليا في المنظمة ومؤسساتها، فوجود الثورة كفعل ميداني كان ترجمة لتأسيس المنظمة كإطار مرجعي. وأمام كل ذلك وبموازاته ظلت التعددية أساس هذا التنوع والفسيفساء هي من يرسم اللوحة الأشمل.
لم يكن هذا كافياً، إذ إن نضالاً مختلفاً كانت تقوده القيادة الفلسطينية من أجل نقل الاعتراف بالمنظمة من أروقة القرار العربي إلى التمثيل الدولي. من لا يفهم أهمية التمثيل وكيف كان سيغير وجه النكبة ونتائجها لو كان لنا دولة أو كيان يمثلنا، عليه أن يعيد قراءة التاريخ. إنه ذات السبب الذي يجعل غلاة اليمين وكثيراً من أدعياء السلام في اليسار الإسرائيلي يرفضون فكرة الدولة الفلسطينية حتى لو في جغرافية صغيرة من أرض الآباء والأجداد. القيادة الفلسطينية كانت تقاتل في كل مكان بالعالم؛ بحثاً عن من يعترف بأن للشعب الفلسطيني ممثلين. وكان النضال الدبلوماسي الذي استشهد في غماره الكثير من طليعيي الدبلوماسية الفلسطينية في مرات أكثر خطورة من حمل البندقية. وكانت التصفيات الجسدية تتم في العواصم الأوروبية مسرح الاشتباك الدبلوماسي من أجل منع وصول صوت فلسطين إلى العالم.
منظمة التحرير هي ذلك الصوت الحر الذي قال للعالم: إننا موجودون، لقد فشلتم في تحويلنا إلى ذكريات حزينة عن شعب عبر الجغرافيا ومضى في سراديب النسيان. لن تطوى صفحتنا فنحن موجودون. كانت هذه هي قيمة منظمة التحرير في زمن كان رفع اسم فلسطين معاداة للسامية. منظمة التحرير الراية الفلسطينية التي ظلت خفاقة حتى في أزمنة التآمر والخيانة. منظمة التحرير هي الممثل الحقيقي للهمّ والحزن والفرح والحلم الفلسطيني.
ليس ذنبها أن الإسلام الجديد فيما كان يتم خوض كل تلك المعارك كان يعتبر القتال ضد إسرائيل انتحاراً وحمل البندقية رمياً بالنفس في التهلكة. ليس ذنب منظمة التحرير أنها نجحت في أن تفرض نفسها وطناً معنوياً لكل الفلسطينيين، وليس ذنب كوفية زعيمها المؤسس أنها باتت علم فلسطين الآخر أمام العالم.
لا توجد شعوب في العالم ترجع بتاريخها إلي الوراء إلا نحن. في كل العالم من يأتِ لاحقاً يتكيف مع الموجود ويشكر الرب أن هناك من سبقه وظل يحمل الراية حتى التحق بالركب. أليس من المعيب أن يتم الطعن في منظمة التحرير بموسكو، العاصمة التي دافعت عن فلسطين، وحملت لواء إسنادها في زمن لم يكن هناك إسلام سياسي، بل إن الإسلام السياسي مع مرجعياته الرأسمالية في الغرب كان يعتقد أنها كافرة. على الأقل لو من باب اللباقة، إن لم ترد أن تحترم تاريخك ورفات أجدادك الشهداء فعلى الأقل من باب كرم الضيافة احترم المضيف الذي ساعد في تثبيت مكانة منظمة التحرير. كان الأمر بحاجة لبعض اللباقة.
بقلم/ عاطف أبو سيف