لا يمكن البناء على سياسة لا تعترف بالأمر الواقع، وترى الأمور والتطورات من خلال إسقاط رؤيتها وشعاراتها، على واقع آخر متخيل. نعلم أن الأحزاب والقيادات عموماً، تحاول دائماً، جسر الهوة بين أهدافها وشعاراتها، وبين الواقع المراد تغييره، بإضافة الإرادة الذاتية والجهد المتواصل، لكن مثل هذه الآلية في التعامل مع الظواهر الخطرة، يتسبب في كثير من الأحيان بخيبات أمل صعبة ومكلفة. مؤتمر وارسو، الذي دعت إليه الولايات المتحدة، بالتعاون الكامل مع إسرائيل، لم يكن حدثاً صوتياً ولا ظاهرة عابرة، لا بمستوى حضوره، ولا بأعداد الدول التي حضرته بغض النظر عن مستوى التمثيل.
حين يدافع وزير خارجية اليمن، عن واقعة وجوده إلى جانب بنيامين نتنياهو، فإنه لا يجد ما يقوله سوى: إن بلاده تتمسك بمواقفها من القضية الفلسطينية، وإن الأمر يتصل بالإجراءات البروتوكولية، التي فرضت عليه أن يجد نفسه إلى جانب رئيس حكومة الاحتلال.
كان بإمكان وزير الخارجية اليمني أن يرفض الجلوس إلى جانب نتنياهو، وأن يطلب من الجهة المنظمة والمسؤولة عن البروتوكول، أن تجد له مكاناً آخر، لكنه إما أنه راضٍ، وإما أنه مضطر لقبول الأمر الواقع.
إذا رجّحنا حسن النوايا، فإن الأمر ينطوي على استنتاج مهم ذلك أن بلاده، ودولاً أخرى، من المرجح أن تكون كثيرة، قد تعرضت إلى ضغوط أميركية إسرائيلية هائلة، لضمان حضورها المؤتمر بغض النظر عن مواقفها السياسية. سيقول بعض العرب: إنهم لم يذهبوا إلى مؤتمر وارسو، من أجل التنازل عن حقوق الفلسطينيين وقضيتهم أو من أجل دفع عملية التطبيع خطوة أخرى، وإن ما يبرر حضورهم هو أن المؤتمر سيناقش الخطر الإيراني، الذي يتهدد دولهم وأنظمتهم. في واقع الأمر، ومهما كانت المبررات والذرائع، فإن المؤتمر الذي تجنب مناقشة ملف الصراع الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي، وموضوع السلام، قد أصاب في القلب القضية الفلسطينية من حيث إنه ربط كل موضوع الأمن والسلام في المنطقة بالخطر الإيراني.
وفي واقع الأمر، أيضاً، إن "صفقة القرن"، التي بدأت تجد طريقها إلى التنفيذ العملي منذ أن وقّع ترامب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، تلك الصفقة، ذات طبيعة وأبعاد إقليمية.
فضلاً عن ذلك، فإن المؤتمر ذا هوية وأهداف واضحة تقف وراءها الولايات المتحدة وإسرائيل، ويشكل تهديداً لمنظومة الأمم المتحدة التي تتحمل هي المسؤولية عن الأمن والسلام الدوليين، أما أن يغتصب الحلف الأميركي الإسرائيلي جوهر دور ووظيفة الأمم المتحدة، فإن ذلك يعني أن هذا الحلف، عملياً، يقوم بدور تفكيك هذه المنظمة، وتغيير طبيعة وظيفتها وآلياتها وأدواتها بما يكرس هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي.
إذا كان هذا ما تسعى إليه الولايات المتحدة، وفي السياق ترتيب أوضاع ومستقبل المنطقة، على حساب الآخرين، ومن خزائنهم الخاصة والعامة، فإن إسرائيل تحقق ربحاً إستراتيجياً.
نتذكر واحدة من قضايا الخلاف بين إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وبين نتنياهو وحكومته، إذ كانت إسرائيل تلح على أولوية مواجهة الخطر الإيراني وملفها النووي، دون أن تجد مكاناً لعملية السلام، فإن أوباما أراد أن يفرض ضرورة تزامن الملفين معاً.
خسر أوباما في تلك المواجهة وربح نتنياهو، الذي أدار علاقات سلبية وسيئة ومهينة أحياناً مع الرئيس أوباما وأركان إدارته، فها هي الولايات المتحدة، تتطوع بالباع والذراع لتنفيذ المعادلة التي طرحها وأصر عليها وتمسك بها بنيامين نتنياهو، وبكل تفاصيلها، بل أضافت عليها العمل بقوة، ليس من أجل السلام وإنما من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
يعيدنا هذا الأمر إلى الجدل التاريخي الذي كان سائداً في القرن الماضي حول مدى قوة اللوبي اليهودي الأميركي في صناعة السياسة الأميركية، بحيث تزكي سياسات الإدارة الأميركية الراهنة الاستنتاج الذي كان يقول: إن اللوبي اليهودي يملك باعاً طويلة في إدارة السياسة الأميركية، خصوصاً في كل ما يتعلق بإسرائيل.
والآن، هل يمكن تبرئة الدول العربية التي حضرت مؤتمر وارسو من رغبتها في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل؟
علينا أن نصدق بعض الدول العربية التي حضرت من موقع المغلوب على أمره، وأنها لا تزال تتمسك بمبادرة السلام العربية بحذافيرها، لكن هذا الأمر لا ينسحب على معظم الدول التي حضرت "وارسو".
مما يقال، أيضاً، في هذا المجال: إن إسرائيل تنجح عملياً في قلب مبادرة السلام العربية رأساً على عقب، بحيث تبدأ من الياء وربما لا تنتهي بالألف، وهو المتعلق بالحقوق الفلسطينية والعربية.
نتنياهو لم يخترع شيئاً جديداً فيما يتعلق بالموقف من مبادرة السلام العربية، ما يعني أننا أمام سياسة عامة مدروسة ومخططة مسبقاً، يلتزم بها المسؤول الإسرائيلي أياً كان اسمه أو صفته أو مكانته.
نتذكر أن شارون رد على قرار قمة بيروت عام 2002، الخاص بمبادرة السلام العربية بإعادة احتلال الضفة الغربية من خلال عملية واسعة تحت اسم "الدرع الواقي". ثم جاءت الحكومات اللاحقة لتكمل ما بدأه شارون إلى يومنا هذا، من خلال ما يسمى السلام الإقليمي والسلام الاقتصادي.
الأخطر من ذلك، أن الولايات المتحدة تبحث ليس فقط عن تغيير الأولويات في المنطقة، وقلب مبادرة السلام العربية رأساً على عقب فقط، وإنما تسعى لأن يُكفِّر بعض العرب عن ذنب موافقتهم على تلك المبادرة من خلال دور في تحالف تقيمه الولايات المتحدة، وسيكون لإسرائيل دور رئيسي فيه قد لا تكون أبعاد ومخرجات وارسو نهاية الكون، ولكن لا يمكن ونحن ننظر إلى المستقبل القريب والأبعد، أن نتجاهل مدى خطورة ذلك المؤتمر، أو أن يبقى الفلسطينيون أسرى إصدار البيانات والتصريحات، دون فعل حقيقي ملموس لوقف انهيار الوضع العربي على النحو الذي يخدم إسرائيل.
بقلم/ طلال عوكل