قرر الكابينت الإسرائيلي خصم مخصصات الأسرى وعائلات الشهداء الفلسطينيين من أموال عائدات الضرائب التي تجبيها حكومة الاحتلال للسلطة الفلسطينية، وتبلغ هذه المخصصات أكثر من نصف مليار شيكل سنويًا (حوالي 138 مليون دولار)، ولم يتم تحديد هل ستخصم مرة واحدة، أم ستقسم وتخصم شهريًا. هل سيؤدي تطبيق هذا القرار إلى تدمير السلطة ... لنرَ؟
سبق أن هددت السلطة الفلسطينية بأنها لن تأخذ فلسًا واحدًا من أموال عائدات الضرائب إذ خصم الاحتلال منها فلسًا واحدًا، إلا أنها بعد صدور القرار الإسرائيلي يبدو أنها تراجعت عن تهديدها السابق على أساس أنها ستدرس الرد، وستعلنه لاحقًا. أي راحت السكرة وجاءت الفكرة.
نحذر في البداية من اللجوء إلى زيادة الضرائب لتعويض ما ستسرقه سلطات الاحتلال من أموال فلسطينية، لأن هذا ستكون له تداعيات عكسية، ويمكن بدلًا من ذلك عمل خطة تقشف تطال أصحاب الرواتب العليا والامتيازات والمصاريف التي يمكن التخلي عنها، ولا يجب أن تطال عقوبات جديدة ضد قطاع غزة أو مخصصات الأسرى وعائلات الشهداء، وكذلك نحذر من الخضوع لردات الفعل، مثل رفض أخذ بقية الأموال، من دون توفير البدائل، مع العلم أنها أموال فلسطينية وليست مساعدات إسرائيلية.
بمقدور السلطة أن تلجأ إلى شبكة الأمان العربية، وأن تتحرك على كل المستويات، القانونية والإدارية والسياسية والجماهيرية، رفضًا للقرصنة ولمجمل السياسات العدوانية الإسرائيلية. كما بمقدروها، وهذا الأهم، أن تضع خطة عملية متدرجة لتنفيذ قرارات المجلس الوطني، بالتزامن مع بلورة البدائل وليس إضاعة الوقت بتكرار الحديث عن اجتماعات أو لجان لوضع هذه الخطط وتنفيذها منذ قرارات اجتماع المجلس المركزي في آذار 2015 دون أن ترى النور حتى الآن.
يمكن أن يكون القرار الإسرائيلي مؤقتًا، ومتعلقًا بفترة الانتخابات الإسرائيلية التي تشهد منافسة حامية بين اليمين المتطرف واليمين، بين أيهما أكثر عداوة وتطرفًا ضد الفلسطينيين، ومن ثم تعود المياه إلى مجاريها بعد إعلان نتائج الانتخابات التي ستجري في التاسع من نيسان القادم.
ويمكن أن يكون هذا القرار متممًا ومنسجمًا مع المتغيرات الجديدة التي رافقت فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، وتبني سياسة أميركية أكثر تطرفًا في دعم إسرائيل من الإدارات الأميركية السابقة، لدرجة أنه اعتبر الحقائق الاستعمارية العنصرية التي أقامها الاحتلال هي المرجعية الوحيدة لأي عملية سياسية قادمة، بعيدًا عن المرجعيات القديمة، بما في ذلك مرجعية القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
في هذه الحالة، نكون أمام سياسة جديدة سيتم في سياق تطبيقها فك السلطة وتركيبها وترويضها، لتقبل التكيف مع متطلبات "صفقة ترامب" وإقرار "قانون القومية" العنصري وتداعياته في زيادة أخطار قيام إسرائيل بضم الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها، وإدراج مخططات التهجير على جدول الأعمال.
الهدف الإسرائيلي إنهاء ما تبقى من دور سياسي للسلطة، والإبقاء على دورها الوظيفي الإداري الأمني على أساس تحويلها إلى وكيل للاحتلال، نقطة على السطر، ترسيخًا لتغييب الحقوق الفلسطينية بالكامل، ومواصلة العمل لدفن خيار الدولة الفلسطينية لصالح تكريس سيادة دولة إسرائيل الواحدة من النهر إلى البحر، التي تقيم أنظمة عدة في الأراضي الواقعة تحت سيادتها.
نستخلص مما سبق أن المطلوب استكمال عملية تغيير السلطة، وإذا لم تتكيف السلطة واستمرت في عنادها وموقفها الشجاع، سيتم الشروع في تغييرها وإيجاد بديل عنها. ولقد بدأ الشروع في ذلك من خلال توسيع دور الإدارة المدنية، لتشمل تقديم الخدمات للفلسطينيين والمستوطنين وزيادة العاملين فيها، وتفعيل دور المنسق وعلاقته المباشرة مع الفلسطينيين، خصوصًا مع العائلات والعشائر، وتشكيل الغرفة التجارية لـ"يهودا والسامرة"، بمشاركة فلسطينيين، إضافة إلى تهيئة الفلسطينيين لحضور فاعل ومباشر لقوات الاحتلال داخل المدن الفلسطينية، كما حصل تحديًدا في مدينتي رام الله والبيرة في كانون الأول 2018، وجعل الأمر روتينيًا، تهيئة لما يمكن أن يحدث في المستقبل.
كما يسير بالتوازي مع ذلك محاولات أميركية مثابرة ومتعددة لتشجيع فلسطينيين، كأفراد ومجموعات، وخصوصًا اقتصاديين، لتجاوز السلطة، والتعامل مع الإدارة الأميركية مباشرة على مستويات متعددة، حيث تلوّح إدارة البيت الأبيض بأنها ستجمع 10 مليار دولار لتحقيق السلام الاقتصادي ما دام السلام السياسي متعذرًا، أي سيحاولون رشوة الفلسطينيين مقابل بيع قضيتهم، وهناك من بدأ لعابه بالسيلان – للأسف - وذلك تهيئة لطرح "صفقة ترامب" التي سيعلن عنها وفق تصريحات أميركية بعد الانتخابات الإسرائيلية مباشرة في نيسان القادم.
الجدير ذكره أن هناك خططًا إسرائيلية متعددة تلتقي فيها أحزاب اليمين المتطرف واليمين الجديد، على نقاط، مثل: معارضة قيام دولة فلسطينية، فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية من النهر إلى البحر حتى بعد الحل النهائي، تكثيف الاستيطان وتشريعه وتوسيعه، بقاء القدس، وخاصة البلدة القديمة، تحت السيادة الإسرائيلية، عدم الاستعداد لأي حل عادل لقضية اللاجئين ومواصلة العمل على تصفيتها.
في هذا السياق، تأتي خطة الباحث الصهيوني مردخاي كيدار المسماة "الإمارات الفلسطينية المتحدة" التي تتحكم بها إسرائيل، وتتجسد من خلال قيام إمارة في كل مدينة على أسس عائلية وعشائرية، وضم المناطق الريفية ومناطق (ج) إلى إسرائيل، لتكون جاهزة إذا لم تواصل السلطة تكيّفها لخدمة الأغراض الإسرائيلية، أو إذا انهارت في غمرة الضغوط المتزايدة عليها.
وإذا دققنا نلاحظ أن شيئًا شبيهًا لما يجري في الضفة الغربية ينفذ بالتدريج في قطاع غزة، حيث بدأ التفكير جديًا بتشكيل أطر وجماعات تحل محل السلطة في غزة تحت عناوين مختلفة: انتخابات بلدية، عمل تشكيلات لتلقي المساعدات الدولية، حكومة جديدة في غزة لا تشارك فيها الفصائل، مجلس إنقاذ من التكنوقراط والمجتمع المدني والمستقلين، بشرط أن تكن مقبولة أو يمكن أن تقبل من المجتمع الدولي، مقابل عمل مشاريع كبيرة يجري الحديث أنها في غزة تارة، وتارة أخرى في سيناء، وتارة ثالثة في إسرائيل.
ما يفسر ما سبق أن واقع الانفصال بين الضفة والقطاع يتعمق، ولم تنجح محاولات عودة السلطة إلى القطاع، بينما حركة حماس رغم التعامل معها بوصفها سلطة الأمر الواقع لا تزال مرفوضة ومدرجة على قائمة الإرهاب، ومطالبة حتى تحصل على الشرعية الدولية، بالموافقة على شروط اللجنة الرباعية التي لا تبدأ بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ولا تنتهي بالتنسيق الأمني.
قبل مجيء ترامب واليمين الإسرائيلي المتطرف كنت مستعدًا أن أحاجج أيًا كان بأن إسرائيل لا يمكن أن تفرط بالسلطة، أو تسمح بحلها أو انهيارها، وكان دليلي في السابق أن السلطة قاومت الاحتلال ودخلت معه في مواجهة عسكرية بأوامر من الرئيس الراحل ياسر عرفات في محاولة لكسر قيود أوسلو الغليظة، ومع ذلك لم تقم إسرائيل بحلها.
أما الآن لم أعد مستبعدًا بشكل كامل أن تتخلص إسرائيل من السلطة لأنها رفضت "صفقة ترامب"، وأوقفت العلاقة السياسية مع الإدارة الأميركية، وإذا استمرت في هذا الموقف، ستعتبر أنها استنفدت دورها وطاقاتها لصالح سلطة أو سلطات مطواعة أكثر.
على السلطة أن تدرك حتى أن الحفاظ على الأمر الواقع الراهن ووقف التدهور الحاصل بالاعتماد على نفس السياسات والرهانات والأوهام والأدوات والأشخاص، لم يعد ممكنًا، وأن التدهور مستمر إذا لم تتخذ السياسات والخطوات القادرة على وقفه تمهيدًا للتقدم نحو الأمام.
الخلاصة مما سبق، أن مواجهة القرار الإسرائيلي لا يكون بالتنازل عن التهديد برفض استلام أموال الضرائب كافة فقط، وإنما يتطلب وضع رؤية شاملة لمواجهة التحديات والمخاطر المتعاظمة التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها. رؤية تتضمن من ضمن ما تتضمنه إعادة النظر في شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها وموازنتها لتصبح في خدمة البرنامج الوطني (تقرير المصير والعودة والاستقلال)، وأداة من أدوات منظمة التحرير الموحدة.
حتى لا ننثر الوهم، علينا أن نعترف بأن واقع السلطة والقوى والقيادات، وما يفكرون به وما يعملون من أجله كما ظهر بوضوح وفضيحة في لقاء موسكو بعيد جدًا عما يجب عمله، مما يضع زمام المبادرة في يد الشعب الذي حمى القضية حتى الآن، وبمقدوره أن يواصل حمايتها، ومتوقع منه أن أن يتحرك لفرض إرادته على الجميع.
بقلم/ هاني المصري