فيما كان أهالي القدس يذودون عن المسجد بصدورهم ويرابطون؛ حتى يفشلوا مخطط تهويد المدينة، في المعركة التي نجحوا فيها بالعودة للصلاة في باب الرحمة، فإن شيخ المسجد الذي صليتُ فيه، الجمعة الماضية، كان يحرضنا على الاستعداد لوصول جيوش المسلمين. وكان يمكن سماع صليل السيوف ودكّ سنابك الخيل وقعقعة المعارك التي تدور في مخيلته الخصبة إلا من الواقع.
كان أهالي القدس ينذرون أرواحهم للموت في سبيل منع الكارثة أن تحدث، فيما كان شيخنا يتحفنا بالوعود التي لم يكن يقول لنا إنها وعود، بل هو يراها ويسمعها ويحسها حوله محققة لا محالة. وبين الواقع الذي لا يتحدث عنه وبين العالم الذي يجلبه أمامنا بكلماته، كان ثمة بون شاسع.
لم يقل شيئاً عن المعركة الحقيقية التي كانت تدور وقام خلالها أبطال العاصمة بفتح البوابة بأيديهم وتدافعوا مهللين مكبرين أمام انهزام إرادة الاحتلال. نفس المعركة التي دارت قبل ذلك على البوابات الإلكترونية، والتي صمد فيها أهالي القدس وفرضوا إرادتهم على سلطات الاحتلال.
الإرادة حين تنتصر مثل نهر جارٍ يقتلع كل ما في طريقه. لم يقل لنا شيخ الجمعة شيئاً عن حقيقة ما يجري كأنه لا يهمه، وأنه ربما بالنسبة له أمر عادي؛ لأن الأمر الخارق هو تلك الوعود التي يعيد إخراجها لنا بالكلمات ويريد لنا أن نرتبط بها أكثر من ارتباطنا بما يجري.
يريد لنا أن نعيش في عالمه وليس في عالم الواقع الذي يحيط بنا. أيضاً كما أنه يقفز عن هذا الواقع فإنه يريد لنا أن نقفز عنه. فهو لا يحدثنا بما يجري حولنا ولا بما يجري ويمسّ حياتنا، بل يواصل تقديم الوعود التي يعرف أنها ربما جزء من صلب المتخيل، لكنها لا تقدم الكثير من الإجابات حول مواجهة الواقع والتصدي لما يجري. هل يبدو هذا منطقياً؟ ربما بالنسبة لنا لا يبدو كذلك، لكنه بالنسبة له يبدو المنطق بعينه، لأن ما نعتقد بمنطقيته ليس بالضرورة أن يعني له ذلك. عموماً هكذا يصار إلى تشكيل الوهم وإعادة إنتاجه وفق أهواء من يقف خلف منصة الخطابة.
لم يحدثنا عمّا يجري في القدس ولا عن الناس الصامدين هناك، لم يقل الكثير عن معاناة البسطاء في اقتناص فرص الحياة بكرامة وكبرياء، ولا سرد لنا مآثر التضحية اليومية في ظل ما يمارس بحقهم من سياسات وبطش، وما يتعرضون له من ويلات ومضايقات، سواء من شرطة ما تسمى بلدية الاحتلال، أو من قبل المستوطنين الذين يستبيحون البيوت والمقدسات والممتلكات. قفز فجأة إلى مبتغاه ومقصده من وراء الخطبة، الوعود التي أتحفنا بها وطلب منا أن نصدق أنها واقعة لا محالة بغض النظر عن وجهة نظرنا. غاب الحاضر وغابت معه الواجبات التي يجب أن نقوم بها تجاه أهلنا هناك.
بدل كل ذلك بشّرنا الشيخ بملايين الجند الذين سيأتون من كل بقاع الأرض من بلاد المسلمين لفتح القدس، فالنصر على الأبواب. وعليه، وهذا وفق قوله، علينا أن نستعد في فلسطين لتجهيز المكان لاستقبال هؤلاء الجنود. علينا أن نبني الفنادق؛ لأن ما لدينا لن يكفي؛ فعدد الجند القادمين كبير وكبير جداً، وعلينا أن نشيّد الطرق استعداداً للفتح الكبير، كما علينا أن نفتتح المطاعم الكثيرة حتى نطعمهم. علينا الكثير من المسؤولية التي يجب القيام بها تحضيراً لوصول هؤلاء الجند الذين سيحررون القدس ويخلصونها من الاحتلال. لا شيء آخر، فقط علينا انتظار اللحظة القادمة التي ستقع لا محالة وستقع قريباً.
هكذا ببساطة تم اختصار الأمر. فالحديث عن الواقع أكثر تطلباً ويستوجب الحديث عن المسؤوليات والواجبات التي ربما لا يريد الشيخ أن يتحدث عنها. فكيف له أن يخبرنا بما يجري دون أن يقول لنا ما الذي يجب فعله من أجل إسناد أهلنا في القدس، ودون أن يخبرنا بواجباتنا تجاه حماية المقدسات هناك. يعرف أن كل حديث له متطلباته ويجر لحديث آخر. لذا فإن الوعود وحدها تفي بالإجابة. حتى أنه لم يقل لنا كيف سنبني الفنادق والمطاعم ونرصف الشوارع كأنه لا يعرف أن المواطن في القدس ينشف ريقه وهو يجري من دائرة لأخرى في بلدية الاحتلال من أجل الحصول على التراخيص اللازمة ليس لبناء فندق، بل لتصليح بيته.
من المؤكد أنه لا يعرف ذلك ولا يعرف الضرائب الباهظة التي يواجهها سكان العاصمة حتى يتم دفعهم أمام العوز وعدم المقدرة على الدفع إلى ترك مكان سكناهم والانتقال خارج حدود البلدية. ومن الواضح ربما أنه غير مطلع على كل ما يعانيه سكان القدس من إجراءات تهدف إلى إفراغ المدينة من سكانها، ولا يعرف بمشاريع تصفية الوجود العربي بهويته الإسلامية المسيحية في المدينة.
تفاصيل كثيرة تجعل الحديث عن بناء الفنادق والمطاعم والطرقات تمهيداً لوصول جيوش المسلمين عملية معقدة، لذا فإن أسهل شيء أن ينسى كل هذا الواقع ويجعل الأمر يدور في عالم الأمنيات ليس أكثر.
عالمان متناقضان: العالم الذي نعيش فيه والعالم الذي يريد لنا الشيخ أن نتخيله. ألا يشبه هذا حديث مدرس المدرسة لابني في الابتدائية عن الملائكة التي قاتلت إلى جانب حزبه في العدوان الأخير والأيمان الغليظة التي حلفها بأنه رآها بأمّ عينه. لكن ما كانت أفكر فيه هو أيّ ماكنة حزبية أو لاهوتية أوصلت شاباً لم يتجاوز الثلاثين – شيخ المسجد الذي صليت فيه- إلى مثل هذه الخلاصات الرهيبة وإلى قناعات زائفة بجيوش يسمع وقع سنابكها ولا يسمع وقع أقدام المرابطين من أهالي القدس وهو يتصدون للجيش وشرطة بلدية الاحتلال في باب الرحمة. أي زيف هذا؟! وأي عالم يريد لنا أن نصدق؟.
بقلم/ عاطف أبو سيف