كلما اقترب موعد الثامن من آذار أطلت قضية المرأة كقضية ملحة وهامة تحتل مكانها في سلم أولويات الأمم جميعا فالموقف من المرأة عادة هو الموقف من الحياة وعادة ما تستعيد الأمم عند كل محطة تعداد انجازاتها على الصعيد المعني أيا كان سياسيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا وفي حال المرأة فان لقضيتها خصوصية الشمولية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ولا يحتاج ذلك لأي تفصيل او توضيح فتقدم مكانة المرأة ووقوفها في موقعها الطبيعي يجعل منها أداة فعل وتأثير كبيرين على الأصعدة الثلاث فالمشاركة السياسية للمرأة تعني تفعيل نصف المجتمع ودفعه لممارسة الفعل فيما يخص قضاياه الوطنية والقومية والإنسانية وكذا مشاركة نصف المجتمع في الحياة الاقتصادية يعني رفع مستوى الإنتاجية وزيادة الثروة الوطنية وتقدم الامة بأسرها وكذا ينسحب على الحياة الاجتماعية فمكانة ودور المراة وقدرتها على الفعل والمشاركة ينسحب حتما إلى الأمام على الأجيال القادمة والمجتمع بأسره ما دمنا جميعا نقر بمكانة الأم في بناء الفرد والأسرة وبالتالي بناء المجتمع.
كل ما تقدم ينطبق على المراة وحالها بوجه العموم إلا في الحال الفلسطيني فان مكانتها تتأثر سلبا بكل حالة تراجع تصيب شعبنا وقضيتنا ومن يلقي بنظرة إلى الوراء يرى حجم المصيبة في تراجع مكانة المراة إلى الوراء وبدل انشغال المراة بقضايا الشعب عامة باعتبار قضيتها جزء رئيس من قضايا الوطن والشعب انسحبت إلى الوراء لتصبح لها قضيتها الخاصة ومؤسساتها الخاصة وبرامجها الخاصة التي على ما يبدو لم تعد تهم لا الشعب ولا قواه من قريب او بعيد وكان المراة ليست نصف المجتمع وليست النصف الأخطر في مسيرة البناء والتغيير.
مع ذلك فان برامج ومحطات عمل مؤسسات النساء لم تعد تنشغل بالقضايا العامة ولم تعد تربط ببرامج عملية بين القضية النسوية وقضية الوطن والشعب بكل أوجهها وحين انشغلت القوى السياسية في البحث عن بدائل لأدوات الفعل على الأرض دون جدية العي لإيجاد هذه البدائل ورأت في السعي للبحث بذاته بديلا عن إيجاد الهدف مكتفية بالاعتقاد ان الإعلان عن اسم الأداة يكفي لها ان تكون بديلا عن إيجادها وهذا بحد ذاته ما أصاب أيضا مؤسسات النساء والأطر التي تعمل على قضيتهن بكل العجز غير المعلن وفيما عدا مؤسسات القوى الإسلامية فان فعلا حقيقيا على الأرض لا يمكن لأحد الادعاء بوجوده خارج الصالونات وقاعات المؤتمرات وصفحات الانترنت وبعض الأنشطة الموسمية التي لا تحمل سوى صفة الدعاية وهدفها, في حين تنشط الأطر النسوية للقوى الإسلامية مثلا من بيت لبيت ومن مسجد لمسجد ومن حي لحي بعمل دءوب ومؤثر أعطى ثماره جيدا في الانتخابات التشريعية والبلدية ولا زال هذا التأثير يتواصل ويعطي النتائج يوما بعد يوم في حين تغيب كليا ما تسمى بقوى اليسار والوسط ان جاز التعبير والتصنيف وتبقى قضايا المراة لدى هذه القوى واليسار تحديدا مجرد شعارات مدفونة على صفحات الانترنت او في بعض الورق في أدراج تلك القوى البعيدة عن الفعل كليا وبكل النواحي.
لقد أخرجت اتفاقيات أوسلو المراة فورا عن سكة الفعل الثوري والوطني بكل أشكاله بان وعرقلت كليا كل أشكال الكفاح بلا مقدمات ووجدت المراة نفسها حالها حال قواها مربكة كل الإرباك وغير قادة على تحديد رؤيتها ولا مكانتها ولا أدوات فعلها في حالة من الحيرة فعادت الى بيت واهن هو الأطر والمؤسسات النسوية في محاولة فاشلة لإيجاد أدوات مختلفة وبرامج مختلفة تكفي لاستعادة دور ما او مكانة ما في مسيرة الشعب التي دفعتها اتفاقيات أوسلو لحالة من التيه لم تنتهي ولن تنتهي بهذه السهولة على ما يبدو.
أين هي المراة الفلسطينية اليوم كحركة لا كأفراد من تلك الحركة التي نظمت أول مظاهرة احتجاج ضد أول مستوطنة صهيونية " العفولة " في العام 1893 وهي نفس الحركة التي قدمت تسع شهيدات في ثورة البراق عام 1929 والتي عقدت أول مؤتمر نسائي فلسطيني في القدس في العام نفسه 1929م ورغم ان المراة تشكل ما نسبته أكثر من 49% من المجتمع إلا ان مشاركتها في القوة الإنتاجية العاملة بلغت في آخر إحصائية لها 2017 فقط 19% مقابل 71% للذكور.
نصف المجتمع هذا وبغياب قدرته على الاستفادة من حجم مشاركته ومكانته وقدرة التأثير التي يملكها لصالح حصول المراة على مكانتها الحقيقية راحت قوى واطر ومؤسسات النساء الى القبول بمبدأ الكوتا النسوية في المجالس المحلية والبلديات دون ان تستطيع تأطير النساء للحصول على 49% او أكثر من المقاعد بما يساوي حجمها الحقيقي ولأنها لم تسعى للفعل على الأرض واكتفت بقرار الرجل بما يقبل بمنحها إياه فان بعض القرى مثلا لم تجد من تستطيع التقدم للترشح لعضوية مجلس القرية وقد تأخر وجود مجالس في بعض القرى لان أيا من النساء لم يقبل الترشح علما بان هذه القرى تقودها قوى سياسية تقبل بمشاركة المراة وتدعو لتلك المشاركة مما يؤكد غياب الفعل التعبوي والعملي الحقيقي على الأرض من قبل هذه القوى وأطرها النسوية والاكتفاء بالعمل الدعاوي الإعلامي لا أكثر ولا اقل.
بين الدعوة للمساواة على الأرض وفي القوانين والقبول بما يعطى من فتات وغياب الربط العملي الذي ظل قائما حتى أوسلو بين قضية المراة وقضية الوطن والشعب لصالح قضيا المراة التي وهنت شعاراتها لتنحصر في الصحة والتعليم والترشيح والانتخاب والحماية من الاضطهاد مما شجع المؤسسات الذكورية في السلطة على الانقلاب على إعلان الاستقلال الذي ساوى بين الرجل والمرأة والانقلاب حتى على منجزات سابقة كما حدث مع التراجع عن التوقيع على اتفاقية " سيداو " للقضاء على كل أشكال التمييز ضد المراة مما يعني تراجع حقيقي عن منجزات المراة وبروز ضعف مكانتها وقدرتها على فرض مطالبها على الجميع.
أوسلو التي أضاعت بوصلة العمل الوطني ودفعت بمشاريع التحرير وأدبياتها ومظاهرها الى الخزائن المغلقة حتى بات الحديث عنها ضربا من الخرافة والوهم أضعفت كليا المكانة التي حصلت عليها المراة الفلسطينية في ميدان معركة التحرير وأعادتها الى الصالونات بخطابات وشعارات لا تغني ولا تسمن من جوع وظل الحال يراوح مكانه في البحث عن برامج جديدة ظلت غائبة لان القوى السياسية الفاعلة لم تتمكن من إيجاد برامج لها تعيدها لدائرة الفعل حقيقة على الأرض وهي لا تزال تعيش حالة إرباك بين شعارات العبثية والصواريخ العبثية وبين المفاوضات وسيلة للحل السياسي والكفاح المسلح وسيلة للتحرير وبينهما الحديث الباهت عن أنماط غير واضحة وغير عملية ولا فاعلة للمقاومة الشعبية او المقاومة السلمية او اللاعنف ومن كل فلسطين هدفا الى دولتين لشعبين كحل نرضى به دون ان ندري أين وكيف سيكون وما مدى قدرته على الحياة الى ان وصل بنا الأمر للانقسام الذي قسم كل شيء في وطن متقاسم أصلا بين الأعداء والأعداء مما ساعد في تعاظم وتعميق حالة التيه التي نعيشها والتي كان آخرها شعارين متعارضين مطلقين في الضفة وغزة فبينما رفعت غزة شعار ارحل ضد رئيس السلطة وقمعت كل من عارضه رفعت الضفة شعار بايعناك وهم ما يعني ان الشعب كل الشعب عليه ان يقبل بالشعار حيث تواجد وكان لا احد في غزة يبايع الرئيس ولا احد في الضفة يطالبه بالرحيل.
ارحل وبايعناك تماما كحكاية كوتا للنساء او مناصفة الحق بمناصفة العدد وبين تيه السياسة وتيه المجتمع وتيه الاقتصاد وتيه الثقافة, بين من يقول مكان المراة البيت والغطاء ومن يقول مكانها تحت الشمس وفي العمل ضاعت المكانة الحقيقية للمرأة بين من يدعون تمثيلها كما يضيع الوطن وحقه بين من يدعون أحقيتهم دون غيرهم بتمثيله والدفاع عن حقوقه.
يأتي الحديث عن المرأة الفلسطينية وحقوقها في يومها العالمي من باب الوفاء الأدبي لا أكثر ولا اقل ولن تحصل المرأة الفلسطينية في يومها هذا على أكثر من عديد الخطابات والمقالات والشعارات والاجتماعات الصغيرة والخجولة هنا وهناك دون ان يأتي احد على ذكر المرأة وحقوقها فستسيطر حالة التيه التي نعيش على كل شيء فالمطلوب اذن ليس شعارات وهياكل ورقية رسمية للمرأة ولا نشاط خيري اجتماعي بل حراك عملي فاعل على الأرض يدفع بالنساء والمجتمع بأسره إلى حمى المعركة الوطنية ويعيد توحيدها والمطلوب من المرأة لتوحيد المجتمع ومساواته قبل مساواة الجندر العمل على إعادة اللحمة للشعب مكانا ووعي, أرضا وناس, شعبا وقوى, طريقا لتكريس وحدة الشعب بمكونيه المرأة والرجل كفسيفساء متناغمة فاعلة لغد وطني حر على وطن موحد وحر وإلا فان التيه سيبقى من نصيبنا على كل الأصعدة وفي مقدمتها قضية المرأة فما دمنا غير قادرين على التوافق كشعب واحد ووطن واحد فمن أين سنجد القدرة على خلق التوافق بين مكونينا المتلازمين المرأة والرجل ونحن ندرك ان هذين المكونين غير قادرين على الوجود الواحد دون الآخر أصلا.
بقلم/ عدنان الصباح