في الذكرى الـ49 لاعتقال أبي

بقلم: عبد الناصر فروانة

في مثل هذا اليوم الثالث من آذار/مارس من عام 1970 اعتقل والدي - أدام الله له الصحة والعافية وأطال عمره –، وزج به في سجون الاحتلال لأكثر من خمسة عشر عاماً متواصلة، قضاها متنقلا بين سجون عدة، وعاش خلالها آلام وآهات السجان والحرمان، وقضى فترات طويلة في زنازين العزل الانفرادي، وعانى أثناءها من المرض وتبعات الاهمال الطبي، وعايش اخوة ورفاق كُثر، وكانت تربطه علاقات وطنية واسعة بكافة الأسرى دون استثناء، واشتهرت شخصيته بالنوادر والفكاهة والابتسامة. فحظىّ بمحبة الكل واحترام وتقدير الجميع.

لم يشأ القدر لأبي أن يقضي مدة محكوميته، فأطلق سراحه في العشرين من آيار/مايو عام 1985 في إطار صفقة تبادل الأسرى الشهيرة عام 1985، التي تُعتبر الأكثر زخماً في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، والأكثر روعة من بين عشرات صفقات التبادل التي نُفذت على الصعيدين العربي والفلسطيني. وإذا كان التاريخ الفلسطيني يُسجل ذاك اليوم الذي أنجزت فيه الصفقة بفخر وعزة، وهذا ما يجب أن يؤرخه المؤرخون، فإن الذاكرة الشخصية تحفظه بسعادة منقطعة النظير، كيف لا، وأن تلك الصفقة جمعتني ولأول مرة مع أفراد الأسرة على مائدة واحدة، وهي التي مكنتّني بعد غياب طويل من احتضان والدي دون قيود وبعيدا عن مراقبة الجنود في لقاء مفتوح دون تحديد للوقت أو الزمن.

كان اعتقال والدي، قد جعلني أعيش حياة اليتم ووالدي على قيد الحياة، حيث حرمت من حنانه وعطفه ورعايته لي ولإخوتي. وبالرغم أني ذقت اليتم، بصورة فريدة، على يد جلاد لا يرحم، إلا أنني أشعر بالاعتزاز بأن هذا هو أبي وأنا ابناً له. وكلما استمعت لرفاقه ومعارفه ولكل من عايشه في السجن، اخوة ورفاقاً، ازددت فخراً به وبمسيرته النضالية والوطنية وبما علمنا إياه وما غرسه فينا من قيم ومفاهيم. ليشكّل لي ولأسرتي مفخرة على الدوام ونموذجا يُحتذى.

"عوني فروانة" وكنيته "أبو العبد" هو من مواليد مدينة يافا في العاشر من أيار/مايو عام‏‏1940. يافا عروس البحر المتوسط التي هُجر منها قسراً هو وعائلته عقب النكبة عام1948، ليقيم في مدينة غزة. وقد التحق بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد انطلاقتها بفترة وجيزة، وكان عضواً فاعلا في جهازها العسكري، وشارك ونفذ العديد من العمليات الفدائية وهو يستقل دراجته النارية الشهيرة والتي كانت عنواناً لتحركاته وفيها يكمن سر نشاطه. هذا بشهادة رفاقه وأصدقائه وجيرانه ومعارفه.

ويوم أن اعتقل أبي في مثل هذا اليوم من عام 1970 كنت طفلاً صغيراً، وكان عمري لا يتجاوز الثلاث سنوات. ولم أكن أعرف شيئاً عن الثورة الفلسطينية قبل اعتقاله، أو عن فتح والجبهة الشعبية. ولم أدرك ما يقوله أبو عمار وجورج حبش و غيرهما من القيادات الفلسطينية عن الثورة، ولم يصدح في أذني صدى عمليات أبا جهاد ووديع حداد وجيفارا. إذ كنت طفلاً غير واعي. ومنذ أن وعيت على الدنيا رأيت جنود الاحتلال في وجهي ذات ليلة وهم مدججين بالسلاح يقتحمون بيتي في حي بني عامر بمحلة الدرج شرق مدينة غزة. ويفتشون ويحطمون ويكسِّرون ويضربون. فطُبعت صورهم المتوحشة قسراً في ذهني، وكانت هي أولى الصور المحفورة في ذاكرتي، ومن ذاك اليوم والصورة بكل ملامحها وتفاصيلها عالقة في وجداني وماثلة أمام ناظري، تُلازمني وتُصر على البقاء والتجذر عميقاً في ذاكرتي وترفض الرحيل الأبدي، أو حتى لمجرد المغادرة المؤقتة.

وفي اليوم التالي حملتني أمي بين ذراعيها بحثاً عن الغائب. وبعد أسابيع بات المكان معلوماً، فأخذت تنقلني معها حيثما يكون الأب متواجداً، فتنقلت خلالها من سجن لآخر، ومن ذلك اليوم نشأت علاقتي بالسجون الإسرائيلية ومعرفتي بها، فالتقيت أثناء زياراتي لأبي الأسير بفدائيي سنوات النار وتعرفت خلالها على رموز الرعيل الأول ومؤسسي الحركة الأسيرة، واستمعت إليهم مراراً وتعلمت منهم كثيراً واستفدت من خبرتهم ومخزون معارفهم، فازددت التصاقا بقضيتهم، وازددت حقدا على المُحتل وسجانيه.

فكبرت وكبرت بداخلي قضية الأسرى، قبل أن أكبر وأنتمي مبكراً الى نهج الثورة والتحق بفصائل المقاومة وأتحول أنا الآخر بدوري إلى أسير فمررت على السجون ودخلتها أسيراً وليس زائراً، لأربع مرات، ولست سنوات، ذقت خلالها مرارة السجن بجسدي، بعدما رأيته على جسد أبي ومن ثم على جسد أخي وأقربائي وفي عيون أمي وأخواتي، وتعلمت اثنائها ما لم اتعلمه خارج السجن، فتتلمذت فيها وصقلت بين جدرانها، وتعرفت خلالها على أخوة ورفاق مازلت أعتز بصداقتهم، ولم يحدث لي ذلك فقط، ولم يحدث لأبي فحسب، بل حدث مثل ذلك لأخي الأصغر والوحيد (جمال) -الذي أنجبته أمي ليبصر النور بعد اعتقال والدي ببضعة شهور- حين اعتُقل وهو في سن الطفولة وكان طالب في الصف العاشر لسنوات خمس متواصلة، قبل أن يتحرر ويُعاد اعتقاله للمرة الثانية ويمضى سنتين إضافيتين. وهو ما زال ملتصقاً وبقوة بقضية الأسرى ومدافعاً شرساً عنها.

لقد اعتُقلنا سويا، وفي سجون متباعدة المسافة، ولسنوات طويلة، ولأي من القراء أن يتصور مدى معاناتنا، ونحن نعلم أننا متجاورون ومتفرقون، في آن واحد: لا نتمكن من الالتقاء!.

أما الوالدة -أطال الله في عمرها- فكانت زائرة دائمة التردد على السجون طوال أكثر من ربع قرن دون انقطاع. فباتت تحفظ أسماءها ومواقعها الجغرافية، وتروي تاريخا اختزلته ذاكرتها المكدسة بالأحداث. فهنا سجن غزة وهناك عسقلان، وهذا معتقل أنصار2 وذاك النقب الصحراوي والرملة وبئر السبع ونفحة. وان كنا قد تعلمنا من "الأب" مفهوم الثورة وأبجديات النضال ومعنى الصمود، فلقد اكتسبنا من "الأم" صفات كثيرة منها الصبر والعطاء والثبات والقدرة على تحمل الصعاب. ونسأل الله ان يحفظهما.

وصدقاً وبدون مبالغة، كلما سمعت أو كتبت شيئاً عن الأسرى ومعاناتهم ومعاناة أبنائهم، تذكرت تجربتي الشخصية، وحكاية أسرتي مع السجن الإسرائيلي، والتي قد تكون أقل مرارة من تجارب آخرين كُثر. لهذا تجدني أشعر بالألم، وكلما شعرت بالألم، ازددت إصراراً على المضي قدماً نحو العمل وبذل مزيد من العطاء من أجل الأسرى وقضتهم العادلة، التي هي قضيتنا ونحن جزء منها. فحياتنا يجب أن تُكرس لأجل حريتهم وسعادة أطفالهم، والسعادة لا تتوفر إلا في الحرية، والحرية تُنتزع ولا تُستجدى.

بقلم / عبد الناصر عوني فروانة

عضو المجلس الوطني الفلسطيني

3-3-2019