"كيف له أن يقرّر أنّ موته سيعجّل تحرير البلاد؟ ألم يكُن من المحتمل أن تكون حياتهما كعاشقين، وإنجابهما الأطفال خيارًا أفضل لمصلحة البلاد؟" تساؤل وجوديّ جريء لوفاء حال "غياب" حبيبها دون أن يودّعها لتلقاه مُلصقًا على باب أحد المحال التجاريّة المغلقة حدادًا على روحه وزملائه، وبات صورة شهيد، في رواية "الوَجه الأَسود للبَياض" للروائيّة الفلسطينيّة ريتا طه (102 صفحة، الصادرة عن موزاييك للترجمات والنشر والتوزيع الأردنيّة).
تتناول الرواية حكايتين متداخلتين تربطهما بطلتها وفاء؛ حكاية خالد، طبيب أسنان تخرّج من جامعات لندن، وحيد أبويه البرجوازيّين، "والداه اللذان حاصراه بحرصهما الخانق وجنّدا كل الطاقات الممكنة لعزله عن المخاطر إلى درجة إبعاده عن البلاد بحجّة التعليم"، وزوجته سمر، محامية حاملة لشهادة الدكتوراه، ابنة أسير محرّر أحبّت في صغرها قيس لكن أمّها حالت دون زواجهما خوفًا أن يكون عقيمًا لأنّ أسرته ضعيفة النسل، عاشا حياة عاديّة هادئة ينقصها الإنجاب، قبل أن تكتشف سمر في حاسوبه صورًا التقطها من شرفة البيت لفتاة "أحبّها" دون أن يكلّمها أو يعرفها، فقرّرت الانفصال عن خالد، وحكاية وفاء، التي أحبّت حبيبًا قد استشهد، وعبر وساطة صهرها تقبل بالزواج من مروان، كلاهما قليلا التجربة الجنسيّة فكانت ليلتهما الأولى مأساوية: نامت العروس، بينما سرح عريسها بذكريات قصص حب عاشها مع جارته "سمية" وزميلته الجامعيّة "رولا" اللتان هجرتاه وتزوجّتا من غيره، رأى في نومها وتجاهلها له إهانة كبرى، فانفجر في وجهها وهي نائمة محاولًا قتلها بعد اغتصابها "كانت وقحة، رفضتني...لا هي ما رفضتني... أهملتني وكأني مش موجود، كأني مش عريسها، أصلًا هي عاملتني وكأنها مش عروس... أنا ما كنت بدي أعمل إشي بس كرهتها فجأة، حسّيتها بتضحك علي..." لتنتهي الحكاية بسجنه، ونقل وفاء للمستشفى بعد محاولتها الانتحار؟!؟
بقدرة قادر يلتقي كلّ أبطال الرواية في المستشفى؛ خالد ليتبرّع بدمه عساه ينقذ حماته، أم سمر، التي تمرّ بعمليّة استئصال الرحم، وفاء عشيقة خالد "الإفتراضيّة" التي تبيّن أنّها ابنة صديق الطفولة عبد الرحمن، الطبيب المشرف على عمليّة أم سمر، ألا وهو "قيسُها" فتحاول تجديد علاقتها به دون جدوى، فهو ربّ عائلة ووالد أطفال، وتتشابك الأمور ببعضها وكأنّ القارئ يشاهد مسلسلًا تركيًّا مُدبلجًا على إحدى الفضائيّات أو فيلمًا هنديًّا مع تدوير المربّعات!
أخذني عنوان الرواية إلى خطاب فان جوخ الأخير: "عزيزي ثيو: أمس، رسمت زهورًا بلون الطين بعدما زرعت نفسى في التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسي، وغربان الذاكرة تطير بلا هواء، سنابل قمح وغربان، غربان وقمح، الغربان تنقر في دماغي، كل شيء حلم، هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا في كل حين، قريبًا سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدري نحو بلاد الشمس، سأفتح لك القفص بهذا المسدس، القرمزي يسيل، دم أم النار؟، غليوني يشتعل، الأسود والأبيض يلوّنان الحياة بالرمادي، التبغ يحترق والحياة تتسرّب، للرماد طعم مرّ، بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تمامًا.. كلّما تقدّم العمر بنا غدونا أكثر تعلّقًا بها، لأجل ذلك أغادرها في أوج اشتعالي، ولكن لماذا؟.. إنّه الإخفاق مرّة أخرى. لن ينتهى البؤس أبدًا، وداعًا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع"، وها هي كلّ النهايات في الرواية رماديّة قاتلة. البياض والأمل يتحوّل إلى سواد ويأس، فستان الزواج الأبيض يعادل كفن الموت ويصير البياض مخيفًا وشبحًا مُرعبًا ويظهر الوجه الأسود للبياض ليحوّل الخير إلى شرّ والنهار إلى ليل، الحياة إلى موت والحب إلى كراهية مطلقة منفّرة لا تُطاق... رُغم أنّ الأسود كان أبيضًا يومًا ما!!!
تتناول الرواية قضايا حياتيّة يوميّة لأناس عاديّين، بعيدًا عن الأسطرة، بجرأة، كما جاء في التظهير: "رواية جريئة، لأنها تعاملت مع المجتمع الفلسطيني على أنّه مجتمع عادي، أي خارج نطاق الأسطورة، وكأنها تقول: لسنا ملائكة، لدينا من الأخطاء ما يكفي لوأد عروس في ليلتها، ولقتل الحب بدم بارد".
تتطرّق للحرمان، التربية الجنسيّة، وثقافة التخويف والترهيب، الشرف والعذريّة، الأنوثة، الجسد والعار، وعدم تهيئة المقبلين على الزواج لما ينتظرهم في مجتمع عاش التعصّب والحرمان وطبيعي أن تكون النتائج مأساوية، ينقلب الزفاف إلى ما يشبه المأتم، اغتصاب ومحاولة قتل/انتحار، وعروس على شفى الموت وعريس في المعتقل وعائلة تضيع! الحرمان من التعارف قبل الزواج أو حتى التحدّث فكان سؤالها الأوّل لزوجها في ساعة غيبوبتها منذ أن تقدم لخطبتها: "أنا نمت"؟
تصوير زيارة وفاء بنت الرابعة لوالدها الأسير في سجون الاحتلال الذي تغيّر ولم تتعرّف إليه ممّا جعله يصرخ في وجهها: "أنا بابا"، أخذني إلى نصوص سرديّة مفتوحه ولكتاب "جمر المحطّات" ،كتاب تحت الطبع للصحفي بسام الكعبي، الذي رصد في بعض محطّاته جمرَ ذوي الأسرى في طريقهم لتلمِس جمر الأسرى، وصار أشبه بالأب الرمزي بعد أن أمضى سبعة عشر عامًا في الأسر، ومعاناة الأهالي، أحس بعجزه أمام حزنها، يطيح بهالة البطولة التي نسجت حوله، كان عمله البطولي قد احتجز معه خلف القضبان وبقي هناك يفترش زوايا الزنازين فلم يهيأه أحد لما بعد السجن.
الكاتبة نسويّة بامتياز، نصيرة المرأة وخصوصيّتها وحقّها في الحياة... وجسدها وتقرير "مصيرها"، فيزعجها زواج سمر وخالد رغم حبّها لقيس، وزواج وفاء لمروان رغم أنّه لم يكن فارس أحلامها ولم تكلّمه في حياتها لتتجاهله ليلة دخلتها، فيقلب العرس من فردوس منشود إلى جحيم موجود.
تتناول حياة وفكر المُترفين الانتهازيّين من شعبنا، أبناء الذوات، "لم يحتمل مجرّد فكرة وقوعه في الأسر أو إصابته ولو بعيار مطاطيّ، أو حتى التعرّض للاختناق الذي يسفر عنه استنشاق الغاز المسيل للدموع، في مشهد آخر يتكرر خلال المواجهات مع جنود الاحتلال في الانتفاضة" فيسافر، كغيره، للتعلّم خارج البلاد ولا ينسى إثبات وطنيّته أمام نفسه بأن يدعم ماديًّا تلك المعارض للأعمال الفنيّة التي تُقام في ضباب لندن لفنّانين فلسطينيّين، إضافة إلى منحًا دراسيّة في الجامعات المحليّة لعدد من أبناء الشهداء ومخيمات اللجوء".
الحنين إلى الزمن الجميل، ما قبل مهزلة أوسلو وموبقاتها، والخذلان الذي رافقها، فكانت في حينه "ذراع تمتشق السلاح هي الأكثر إثارة بالنسبة للفتيات ذاك الوقت كونها توحي بالرجولة الكاملة"، ممّا أخذني إلى الروائي باسم خندقجي وروايته "نرجس العزلة" حيث كانت الانتفاضة الأولى من الطهارة والنقاء وسطوع المغامرة حين أصبح مهر العروس سنة أو سنتين سجن وأكثر !!! بينما أوسلو أدّت إلى "بما أن الحلول السياسيّة قد غيّبت تدريجيًّا تلك الحماسة، وباتت المبادئ الثوريّة تجابه غالبًا بمتطلبات العيش، وانقسمت نتائج التسوية ما بين خذلان من خسروا الكثير أملًا بالتحرير، وبين رضى من صار همّه الأمن والحصول على ما أطلق عليه "السيادة" على بقعة من أرض الوطن الذي تاهت في سمائه أرواح آلاف الشهداء، والتي لم يتبق لها من الذاكرة سوى بضع شعارات وصور في غرف استقبال ذويهم"(ص.10)
للنكبة والاحتلال حضور عبر صفحات الرواية، "تفرّقت العائلة الكبيرة منذ أن هاجر أفرادها من قريتهم "قولية" القريبة من اللد إثر النكبة، وتوزع أفرادها على المخيمات المتناثرة بين مدن الضفة الغربية" ورغم ذلك تبقى الأرض سيّدة الموقف "احتفلا وحدهما بذكرى زواجهما، توجّها حينها إلى قطعة أرض يملكانها، كان الذهاب إليها يعتبر مغامرة فهي مصنّفة ضمن الأراضي المحاذية لمستوطنة إسرائيليّة تُسمّى "دوليب" ... لكن لم يتقبّل حرمانه من أن يتصرّف بأرضه بقرار الاحتلال، واستمر بالتردّد عليها كلّما سنحت له الفرصة بذلك رغم المضايقات المستمرة
من قبل المستوطنين الذين يحتلّون المكان، ويحرصون على منع أصحاب الأراضي من قطف ثمار الزيتون المزروع في أراضيهم منذ مئات السنين أو الاستفادة من كروم العنب أو محاولة زرع محاصيل أخرى".(ص.25)
للتقاليد الموروثة حضور في الرواية، يثير الكاتبة بين السطور لتتمرّد عليها، وأتساءل: هل كفّر عن جريمته حين "أعاد غسل يديه سبع مرّات بالصابون"؟
نعم، رغم الظروف والاحتلال، من حقّ الفلسطينيّ أن يعيش كباقي أبناء البشر، وجاء جواب سمر بعفويّة حين بادر بسؤالها إن كان حفل العرس يعجبها فردّت: "عادي، مثل كلّ الأعراس، بس العرسان هم اللي تغيّروا".
نجحت الكاتبة بتوظيف فنّ الاسترجاع، تعيدنا إلى أحداث وذكريات لتسليط الضوء على ما حدث في الماضي، بحرفيّة تشدّ القارئ لتتبّع سيناريو مسرحيّ، انتقلت عدستها بين قصصها وأبطالها، خالد وسمر، مروان ووفاء، والأهل، كلّ في مكانه وزمانه وتاريخه، سلّطت العدسة على حفلات زواج وسماح وسمر ببعد ثلاثيّ، كما فعلتها مع مرض أم سمر وأم خالد ووفاء لتخلطها بخلطة محكمة الأبعاد ولتصبغ الوجه الأبيض بطبيعته بالسواد فيصير رماديًّا باهتًا يشبه حيوات صاحباتها!
وتذكّر بأنّ أبطالها ينتمون لشعب كلّ فرد منه لديه شهيده الخاصّ، بلد يتنفّس أسماء شهدائه مع كلّ هبّة تاريخيّة، لتُنهي الرواية: "الموت المجّاني كفيل بإرجاء كلّ شعور خاص".
ملاحظة لا بدّ منها؛ تساءلت حيال غياب صاحب "لوحة" الغلاف التي تليق بالرواية وهُضِمَ حقّه، بتجاهله ؟!؟ أمر وَجَبت الإشارة إليه.!
بقلم/ حسن عبادي