يقول الفيلسوف العربي ابن خلدون في مقدّمته: "إنّ حقيقة التاريخ أنّه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم" ويعني بذلك أن الحياة المدنيّة هي أساس التاريخ، وليس تاريخ السياسة والملوك والحروب بل هو في الحقيقة جميع أنشطة البشر العاديّين من فكريّة واقتصاديّة واجتماعيّة.
جاءت الرواية التاريخيّة لتُعبّر عن واقع تاريخيّ في خيال الروائي ليتّخذ من الأحداث ركيزة لإيصال رسالته بنصّ أدبيّ بعيد عن التكلّس في سرد الوقائع التاريخيّة التي تأتي جافّة، فبدأت بالحكاية الشعبيّة والأساطير لأنها سهلة الحفظ وبالتالي سَهُلَ تناقلها من جيل إلى جيل. الرواية التاريخيّة عمل فنيّ يتّخذ من التاريخ مادّة خامّ للسرد الروائي يشوبها الخيال والإبداع دون الالتزام بحذافير الأحداث، حيث تحمل الرواية تصوُّر الكاتب عن المرحلة التاريخيّة وتوظيفه لهذا التصوّر في حديثه عن ذلك العصر، فيتخّذ من التاريخ مرجعًا وركيزة لحبكته الروائيّة، ممزوجة بالخيال والإثارة .
لاقت الرواية التاريخيّة نجاحًا منذ ظهورها في القرن التاسع عشر في بريطانيا ومن روّادها الروائي الاسكتلنديّ والتر سكوت ومنه إلى اللغتين الفرنسيّة (ألكسندر دوماس الأب، وفيكتور هوغو) والروسيّة (ليو تولستوي في رواية الحرب والسلم).
أما الرواية التاريخيّة العربيّة فرائدها جرجي زيدان تلاه توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، وجمال الغيطاني.
في الأدب الفلسطينيّ: سلسلة الملهاة الفلسطينيّة للروائي إبراهيم نصر الله (قناديل ملك الجليل، زمن الخيول البيضاء، طفل الممحاة، زيتون الشوارع، أعراس آمنة)، رضوى عاشور (الطّنطوريّة)، الروائي الأسير باسم خندقجي (مسك الكفاية – سيرة سيّدة الظلال الحرّة، وخسوف بدر الدين)، علاء حليحل (أورفوار عكا) وغيرها.
يعتمد الروائي في رواياته على مذكّرات وكتب تاريخيّة يقدّمها بأسلوب أدبيّ يعطي القارئ جرعات من المعرفة بسلاسة، فالروايات ليست مجرّد كتب وأحداث خياليّة وتأريخ، والشعب الذي لا يملك أدبًا لا يملك تاريخًا ولا حضارة.
يطلّ علينا الكاتب جمال أبو غيدا في روايته الأولى "خابية الحنين" (464 صفحة، صادرة عن مكتبة كلّ شيء الحيفاوية مشاركة مع المؤسّسة العربيّة للنشر والتوزيع ولوحة الغلاف لتوفيق السيّد، أشهرناها يوم 22.02.2018 في نادي حيفا الثقافي)، رواية تستند إلى أحداث تاريخيّة وقعت في الأردن، كأحداث أيلول الأسود عام 1970 بين الجيش الأردني والفلسطينيّين، ويراها الكاتب نتاج النكبة التي ولّدت تلك الأحداث، الحرب الأهليّة في لبنان في سبعينات القرن الماضي وخروج الثورة الفلسطينيّة من بيروت عام 1982، وأحداث جامعة اليرموك في مدينة إربد عام 1986، كركيزة لسرد روائيّ ماتع، لتثير التساؤلات حول ما حدث، وتصوّر وضع اليسار الأردنيّ ودوره آنذاك؟!؟
"فوّاز"؛ الفدائيّ الفلسطينيّ، وابن أخيه "نايف"، الجامعيّ اليساريّ في جامعة اليرموك هما محورا الرواية، تربطهما بباقي شخوصها علاقة عائليّة، جوار، زمالة جامعيّة أو شغل مشترك. لجأت عائلة فوّاز من حيفا، حيفا الحاضرة عبر الرواية وتحلّق في سمائها كلّ الوقت، إلى الأردن إثر النكبة، وسكنت في عمان، في قسم من بيت أم عواد، العجوز الأرملة الاردنيّة المسيحيّة التي استشهد زوجها في فلسطين بمعركة "باب الواد". عايشوا
معًا الأحداث وتغيّرات أمورهم الحياتيّة كما بؤسهم المشترك، وكانوا خليطًا من نسيج المجتمع بتركيباته وتنوّعاته الدينيّة، الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، السياسيّة والفكريّة تربطهم إنسانيّتهم وشغفهم بالحياة، تجعلك تتماهى معها بشعبويّتها وكأنّك جزءً من الحدث، الرواية. حقًا، كما جاء في لوحة الفنّان ظافر شوربجي: "الذِّكريات لا تَموت...تُمِيت".
عنوان الرواية عتبة نصيّة تجذب القارئ، تمزج بين خابية خمرة أبو نواس وحنين محمود درويش، بين:"...فقال لي: أكتب لتعرفها وتعرف أين كنت، وأين أنت وكيف جئت، ومن تكون غدًا" وبين "أو صوتُ تصفيقِ الجليسِ تطرّبًا
وبكاءُ خابيةٍ وضِحكُ قَناني"
فتضحك القناني لأنها تمتلئ وتبكي الخابية لأنها غدت بلا خمرها، والحنين لأيّام خوالي هو سيّد الموقف ويواكب الرواية ويطفو على سماء شخوصها ليبقي خيبة وحنينًا تسيّر أمورهم، وهل تلتقي خيبة الحنين بخابيته "الفارغة"؟ فالانسان يخزّن الذكرى ولا يخزّن الحنين.
يرتكز الكاتب على التراث الشفهيّ وقصص وحكايا سمعها من الكبار، تحكي تلك الأيام، أيام حيفا الجميلة والنكبة وإثرها على الأهل في اللجوء والشتات، معاناتهم وحنينهم لزمن مضى وحلم آت، يجعلهم يلجؤون للشعوذة لتحقيق أحلامهم وأمانيهم.
يستعمل الكاتب اللغة المحكيّة وقد نجح في توظيف الأمثلة الشعبيّة: "اللي أطعمه بالطنجرة يطعمنا بطرف المعلقة"، "كل فولة مسوّسة إلها كيّال أعور"، " لا بدّو يرحمك ولا بدّو يخلّي رحمة الله تنزل عليك"، "اللّي بدري بدري، والّلي ما بدري بقول كف عدس"، " بعد ما ظرّطت، صمَّتْ رجليها"، "ما ضل عالخمّ غير ممعوط الذنب"، " اللي بدقّ الباب بيسمع الجواب"،" هون حفرنا وهون طمرنا"، "عرب وين... طنبورة وين!" (كان رجل متزوج من طنبورة، وطنبورة كانت صماء وبكماء، طرشة وخرسة... وكان زوجها يتفاهم وياها بالإشارات... وكان يوم يعنّ الغرام والنفس تحنّ عنده، يفرش عباته على الأرض فتروح طنبورة تفهم أن الرِجّال يريد يعاشرها معاشرة الأزواج... وفورًا ما تكذّب خبر، تنام على ظهرها وترفع ثوبها ورجولها ويصير اللي الله محلّله بين الرجال وحرمته... وصار قتال بين القبايل، ردّ الزوج إلى بيته بسرعة وفرّش عباته عالأرض على مود يحط ملابسهم وأكم غرض في العباية ويستخدمها بقجة لينهزموا، طنبورة ما درت بالأمر، شافته يفرش عباته على الأرض، عبالها المسكينة الرجّال كالعادة يريد يعاشرها معاشرة الأزواج، فنامت على ظهرها ورفعت ثيابها ورجولها بعد، واستعدّت للمقسوم، يوم شاف فعايل المسكينة والدنيا خربانة برّه، ضحك وقال عبارته الشهيرة " عرب وين... طنبورة وين!"(ص 169)
يبدو الكاتب مثقّفًا وتأثّر بما قرأه ويستنجد بكتب وكتّاب ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر: "بلدي" لرسول حمزاتوف، "وداعًا يا غولساري" لجنكيز أيماتوف، "الحياة جميلة يا صديقي" لناظم حكمت، "كيف سقينا الفولاذ" لنيقولاي أوستروفسكي، الأعمال الكاملة لغسان كنفاني، دواوين محمود درويش وسميح القاسم وإبراهيم طوقان، وسلسلة "دليل المناضل" وكأنّي به يرمز إلى وِجهته الفكريّة اليساريّة، ويظهر تأثّره بها أسلوبًا ومنحى.
يتناول التهجير من حيفا والنكبة عام 1948 وما آلت إليه الحال (ص 84)، أناس دون مأوى "كل الناس بتسكن البيوت، إلا أنا البيوت اللي بحبّها بتسكني"، دون مهنة وصنعة وتعليم، لتنبع الأفكار الكبرى والحلول الإبداعيّة من رحم المعاناة، وبالموازاة، يصوّر
"الهجرة" الصهيونيّة إلى البلاد "غيّر اسمه من ميردوك إلى مردخاي، واسترجع كلّ المفردات التي حفظها في طفولته من اللغة اليديشيّة والبولنديّة، وسافر عبر المحيط إلى بريطانيا ومنها إلى مدينة لايبهايم في أمانيا، مدعيًا بأنّه يهودي ألماني من الناجين من فظاعات النازيّة، لينضمّ إلى ألوف اليهود الذين جرى إرسالهم إلى فلسطين ضمن عمليّة "عليا بت" التي تولّت المنظّمات الصهيونيّة إدارتها، ليصل إلى ميناء حيفا، لا كمجرم مدان وفارّ من بلاده، بل كهارب من ضمن الهاربين من بطش هتلر، الحالمين بالأمن والاستقرار في الأرض الموعودة آنذاك – والمسلوبة من أهلها في زمن لاحق. حظي القادم الجديد لفلسطين ببيت أبو العبد، الذي اضطرّ لبيع البيت لمتموّلين عرب كانوا يتعاملون مع الوكالة اليهوديّة التي منحته بدورها لمردخاي"! (ص. 333)
جنّد الكاتب السخرية السوداء ليوصل رسالة صارخة، فيتحدّث عن بيع الصليب "لويش ما تبيعه يا أبونا وتوزّع القروش اللي بيجيبهن على فُقرا الرعية؟ ... أي هو الرب محتاج صلبان ذهب ومباخر فضّة مشان يقبل صلاتنا" (ص. 89)، "اللي شخ بلباسه، نكاية بالطهارة"، "في شغلتين لما يصيروا في هالدنيا العاهرة ما حدا بيدري فيهم : تعاريص الغني وموت الفقير...!" وتصل أوجها في المسبّة: "ولك يا قليل الأدب يا قليل الترباية، الله لا يوفّقك، ان شالله تدعسك سيارة وتموت، ان شالله تنحرق بجهنم وأهلك يموتوا حسرة عليك يا كلب يا ابن الكلب، يا ابن اللاجئين يا تبعون المؤن وحبوب زيت السمك... إلهي تنهدّ اسرائيل وتنهزم مشان نخلص منكو وترجعوا لبلادكو يا لاجئين، تفي عليك وعلى اللي ربوك... تفي عليك وعلى اللي جابوك...!" (ص. 104).
يوظّف الكاتب الرومانسيّة، متماثلًا مع تلك الروايات التي عدّدها ليصف جمال ياسمينته: "غفت ياسمين على صدره، نظر اليها فبدت ملامح وجهها مع انعكاس الضوء الخافت المنبعث من النوّاسة ذات الضوء الأحمر القاني، وكأنها قدّيسة أو طيف امرأة متخيّلة، بحاجبيها السوداوين ورموشها الطويلة، وبشرتها الحنطيّة التي كان نايف يرى فيها شبهًا بلون الأرض المشتهاة في حواكير الوطن المبتغى، برقبتها المسترخية على صدره وشعرها المسترسل حتى حدود الفرح، نامت وكأنها تسلّم روحها وقلبها إليه".(ص. 129) ولقاءاته الحميميّة بها ومعها "سارع إلى تقبيلها قبلة لا يذكر أنه حظي بمثلها من قبل، كان بحاجة ماسّة لرشف بعض من الرحيق العابق بطعم النبيذ المعتّق الذي كان يرى فيه السبب في اكتساب شفتي معشوقته، ذلك اللون الوردي القاتل، ومع استجابة ياسمين لقبلته وكأنّها كانت تتوقّعها، أحس بجسدها يذوب بين ذراعيه، وغاب الاثنان في رحلة أخذتهما إلى منطقة يعرفانها جيدًا في اللا زمان واللا مكان، منطقة تردّدا عليها كثيرًا بحيث أصبحت موئلا حميمًا لروحيهما".(ص.231) فتكفل شذى العطر الذي كانت ياسمين قد وضعته في ذلك اليوم والذي لا ينساه نايف أبدًا، في إدخاله في حالة غريبة من الثمالة والوجد.
حيّرتني نزعته البرجوازيّة البنيويّة حين يصوّر لنا سكرة الكلب "صار يبلّل قطع اللحم بالعرق الموجود في كأسه، وبكرمه المعتاد، أغدق على كلب أم سرور المتضوّر جوعًا من لحمته المشويّة المنقوعة بالعرق، مقادير كافية لا لأن يشبع الكلب وحسب، بل و"ليصطهج ويسلطن" كما أراد له فوّاز، فانتابته حالة سكر شديدة جدًا". (ص. 187) وسهرات مجونه "كانت ما إن يحلّ المساء وتشارف عقارب الساعة على الثامنة أو التاسعة ليلًا، حتى تشرع لإعداد عصير البندورة المخلوط بالملح والفلفل الأسود، ثم تسكب فيه قدرًا مناسبًا من فودكا سميرينوف، وتقوم بقلي بيض الخاروف المنقوع بالنبيذ طوال الليلة الفائتة مع خرطة بصل وشويّة كزبرة، بالإضافة إلى إعداد أطباق متبّل الباذنجان والحمص واللبنة الجرشيّة والمكدوس المفعم بالجوز والفلفل الأحمر المنقوع
بالزيت، ورأس الجميد الصغير الذي كان يحلو له أن يختم "السكرة" به...ترتدي واحدة من بدلات رقصها...تضع على وجهها كميّات مناسبة من كريم العرايس...رشّة عطر نسائي خفيف... مسجلة السانيو بيد...أغدقت على جسدها الناعم بودرة بيبي جونسون...ضوء لا يقل عن دزّينة من الشموع." (ص. 349+350)، ناس بهَناها وناس بعَزاها!! وتظهر جليًّا في الفصل النهائي للرواية: "ها هي طائرة البوينج 777 (درجة أولى، مقعده الوثير الذي تحوّل خلال معظم ساعات الرحلة إلى سرير مسطّح بالكامل) التي أقلّت نايف إلى نيويورك لمتابعة حياته العمليّة هناك، قد حملت غالبية شباب الثورة الفلسطينيّة وزرعتهم في كل بقاع الأرض بحثاً عن رزقهم وهرباً من القمع والتعسف"!! شتّان ما بين تهجير عرب عباس 36 ببقجهم، قسرًا، مشيًا نحو ميناء حيفا والمراكب الآيلة للتحطيم والغرق وبين هذه "الهجرة" المرفّهة!!
يُقحم الكاتب اللغة العربيّة وأهميّتها على روايته ونصّه: "لغتنا مش بس حضارتنا، أو هويتنا أو تراثنا، لا أكثر من هيك، لغتنا هي عامل وحدة الأمة العربية، هي السد الذي يقف أمام أي تفكير طائفي منحرف، وصمام الأمان للأقليّات الدينية، اللي وحّدها التاريخ والجغرافيا واللغة مع الناس اللي عايشة معهم منذ ما قبل نشوء فكرة الأديان...". (ص. 249)
ورغم هذا يبقى الوطن هو المبتدأ...والخبر،
" وطن يسكن أرواحنا تسكن فيه
ويذوب في أفئدة تُصلب في كل حين
فيُضحي وطنًا مستحيلًا تعمّد دمًا
يضخه قلب من شهداء وأشواق ولاجئين
تسكنني روحك يا وطني البهي
يا وطنًا من دمع وعشقٍ وخابية للحنين"
"أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو أن لا يحدث ذلك كله...!!!!!" (عائد إلى حيفا،غسان كنفاني، ص. 454).
حين أنهيت قراءة الرواية للمرّة الثانية جاءتني مقولة ألفرد نيتشة الأزليّة "قد تكون كثرة الكلام عن شيء، وسيلة لإخفاء شيء آخر"!!
بقلم/ حسن عبادي