بعد عودة الشيخ محمد عبده من مؤتمر حضره في باريس عام 1881م، سأله مشايخ الأزهر كيف رأي الغرب، فقال قولته المشهورة: (ذهبت للغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولم أجد إسلاماً)، هنا ثار عليه مشايخ الأزهر واستهجنوا قوله، ولكن أصبحت مقولته حكمة لمن يقارنون بين الشرق والغرب، دون أن يدركوا المعنى الحقيقي للعبارة، حتى جاء باحثان مسلمان في جامعة جورج واشنطون الأمريكية هما البروفسور حسين اسكاري أستاذ إدارة الإعمال والعلاقات الدولية، والبروفسور شهرزاد رحمان أستاذة في العلاقات الدولية، وقدما دراسة بحثية علمية بعنوان (ما هي أكثر الدول تطبيقا للدين الإسلامي).
طرحت الدراسة سؤالا، حول مدى الالتزام الديني لدى الدول المستهدفة وهي تقريبا أغلب دول العالم، حيث قارنت دساتير 218 دولة مع 113 مبدأ إسلاميا مستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية، متجاوزة مسألة العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، إنما ناقشت الدراسة المعاملات والسلوكيات والأخلاق التي أرساها الإسلام والتي تقوم على نظام الحياة مثل الديمقراطية أو الشورى، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، ونظام الحكم، ومؤسسات القضاء، والعدل، والحرية، والمساواة، وقبول الأخر والتعايش مع الأديان الأخرى، والعدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة، والحرية الاقتصادية والثقافية، وتعامل الدولة مع مواطنيها. وقد اعتمدت الدراسة على عدة معايير لبيان مدى الالتزام الديني منها: الانجازات الاقتصادية، والحقوق الإنسانية والسياسية، والعلاقات الدولية، وبنية السلطة. ومن خلال هذه المعايير كشفت الدراسة عن الدول التي تعبر عن مدى التزامها بالتعاليم الإسلامية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لقد أظهرت نتائج الدراسة وفق المعايير أن ايرلندا احتلت المرتبة الأولى على مستوى العالم في الالتزام بتعاليم الإسلام دون أن تكون دولة مسلمة، يليها الدنمارك، ولوكسمبورغ، والسويد، وبريطانيا، ونيوزلندا، وسنغافورة، والنرويج، وبلجيكا. عشرة دول غير إسلامية متقدمة في تطبيق مبادئ الإسلام، حيث تطبيقها يبدأ من الفرد وتعاملاته مع غيره، ويعرف حقوقه وواجباته، ويتوزع الأمر لديهم بين الحاكم والمحكوم، ويعلون من قيمة الإنسان.
في حين كانت أول دولة إسلامية في المرتبة الـ(33) وهي ماليزيا، أما على المستوى العربي كانت الكويت في المرتبة ال48، وتوزعت باقي الدول كالتالي أمثلة: البحرين في المرتبة (61)، وتركيا (71)، وتونس (72)، والأردن (74)، ولبنان (87)، والسعودية (91)، وقطر (111)، واندونيسيا (104)، والمغرب (120)، ومصر (128)، والجزائر (131)، وإيران (139)، والعراق (148)، وأفغانستان (149)، وسوريا (168)، واليمن (180)، والسودان (190).
والصدمة الكبرى أن إسرائيل جاءت في المرتبة الـ(27)، قبل دول عربية وإسلامية تزخرف المساجد بأموال تكفي كل فقراء العالم الإسلامي والعربي. وكشفت الدراسة أن أسباب تدني ترتيب الدول العربية والإسلامية في تطبيق تعاليم الإسلام يعود إلى سوء الحكام، واستعمال الدين كوسيلة للسلطة وإضفاء الشرعية على نظام الحكم، وتوظيف الدين لمراقبة العباد، وليس لتنمية حياة العباد، حيث أن تعاليم القرآن والسنة تنص على الازدهار الاقتصادي للمجتمع، بينت الدراسة أن الازدهار في الدول الإسلامية لا يصل إلى الطبقات الفقيرة، إنما يستحوذ عليه الأغنياء، فرغم ادعائها بأنها دول إسلامية فهي لا تطبق تعاليم الإسلام، والأمر بالنسبة لها هو ادعاء ولا تمت بصلة للإسلام إلا من حيث الاسم والمظهر، وأن الدول الغربية والأوروبية العلمانية ذات الأغلبية غير المسلمة هي الأكثر التزاما بالقيم والتعاليم الإسلامية.
تعد هذه النتائج صادمة لكثير من المفكرين الإسلاميين الذين صدعوا رؤوسنا بأنهم يدافعون عن الإسلام لنكتشف أنهم يدافعون عن الحكام الذين يستغلون الدين لإخضاع شعوبهم، وقد اختزلوا الدين في العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، دون التطرق إلى مبادئ الإسلام الحقيقية وتعاليمه السمحة التي نسبتها 95% من إجمالي آيات القرآن الكريم، والمتعلقة بالديمقراطية أو الشورى، وبالحكم ومؤسسات القضاء، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم القائمة على الحقوق والواجبات والالتزام بالقانون، والعدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة، وحقوق الإنسان، والحقوق السياسية، وحرية الرأي والتعبير، والعلاقات الدولية، واحترام قيمة الإنسان وحرماته وخصوصياته.
هل فهمنا الآن المعنى الحقيقي لمقولة الشيخ محمد عبده بعد ما يزيد عن مائة وثلاثين سنة، أن الغرب الأوروبي الذي نحن نصفه بكل الموبقات هو الأكثر منا التزاما بتعاليم ديننا، ونحن الذين نقرأ القرآن خمسة مرات في اليوم، لم ندرك بعد ما هي مبادئ وتعاليم ديننا الحنيف، وإن أدركناها لا نعمل بها، إنما نلتزم بما يقوله صاحب الأمر.
الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت
ـ مدير عام مركز عبد الله الحوراني للدراسات والتوثيق – فلسطين"