الشيخ أحمد ياسين.. لماذا أدرك الاحتلال خطره مبكرا؟

بقلم: سري سمور

 

 الجسدُ الهامِدُ - لو تَدْري - مشلولٌ.. تطْحَنُهُ الأرزاء

لكنَّ الهمَّةَ - رغم القَهْرِ - شهابٌ يَخْتَرِقُ الجوْزاءْ..

والهامَةُ عاليةٌ، عالية.. والهامة عالية شمَّاءْ..

تتوهّجُ في عَزمٍ ومَضاءْ..

والوجهُ الغارقُ في الآلام..

كَصَوتٍ .. مكْبوتِ الأصداءْ..

يَعْجُز عنه كلامُ الشعراء..

يتعالى.. فوق جُحودِ الأهل.. وكَيْدِ الأعداءْ!..

((مقطع من أنشودة أحمد ياسين في الشريط الثاني عشر لفرقة أم النور))

 

كنت أحسب أن مقالين سيغطيان الموضوع، ولكن يبدو بأننا بحاجة إلى ثلاثة وربما أربعة مقالات حول الشيخ أحمد ياسين؛ ليس سردا لسيرته، فذاك باب له من صنّف وأبدع، ولكن لاستخلاص معالم مهمة من هذه السيرة، وتتبع نقاط مفصلية فيها جعلت قضيتنا الفلسطينية تتغير تغيرات مصيرية حادة.

وكما قلت في المقال السابق بأن الشيخ في مختلف مراحل حياته بمثابة المدرسة والحجة، وتجلّي عظمة تدبير الله سبحانه وتعالى؛ فزوجته وهي من أقاربه (أم محمد) قالت في حوار معها بأن هناك من حذرها قبيل زواجها من الشيخ بأنه ربما لن يكون قادرا على الإنجاب؛ فيرزقان بثماني بنات، وثلاثة أولاد، هذا غير من ماتوا وهم صغار، وفي ذلك عبرة لمن أراد الاعتبار، وحكمة لمن يتأمل تقدير الله في الإنسان والحياة!

وحين يتقدم الشيخ لوظيفة معلّم وكان قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، والشيخ بحاجة ملحة إلى عمل يعيله وأسرته اللاجئة الفقيرة؛ تكتب اللجنة ملاحظاتها بأن المتقدم مؤهل ولا تشوبه شائبة من الناحية العلمية ولكنه أعرج (قبل استفحال مرضه لاحقا) ويُخشى أن يكون هذا محل سخرية وعدم انضباط من التلاميذ! ويشاء الله أن المسؤول المصري له ولد أعرج؛ فيتعاطف مع الشيخ ويصدر قرارا بتعيينه، ويكون نصيبه من تلامذته وزملائه المحبة والتقدير والاستلطاف، فقد اشتهر بخفة الظل بشهادة من عرفوه.. فالرزق بيد الله، والله يدبر الأمر من قبل ومن بعد.

 
همة تحرجنا ونشاط يخجلنا

كثير من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، يحفظون القرآن كاملا، أو أجزاء منه، ومنهم من يأخذ سند تجويد متصل، وقد لا يكون للشيخ أفضلية أو سبق في هذا، سوى أنه مريض وأتم في سجنه حفظ القرآن الكريم؛ ولكن ما لفت نظري هو أنه قرأ كتاب (المجموع، شرح التهذيب للنووي) وبعض طبعاته إما بضع وعشرون مجلدا أو نصف هذا العدد من المجلدت؛ وكأنه يحرجنا حين نتكاسل عن قراءة كتاب فنصاب بالملل ويغزونا السأم، ونحن نرفل بنعمة الصحة، فنعلل النفس بشيء من هذا وشيء من ذاك، بدل التجلّد والانكباب على الكتب والمصنّفات، وفي أذهاننا صورة الشيخ القعيد الذي ينجز هذا الإنجاز منتصرا على سجنه ومرضه!

نعم هذا شيء غريب فالشيخ لا يبصر بإحدى عينيه والعين الأخرى كليلة، والشلل يستدعي أن يساعده أحد مرافقيه على تقليب الأوراق، وبالتأكيد هو أبطأ بسبب ظرفه الصحي من غيره في القراءة، وأنا أسأل كم من حملة شهادات الشريعة الإسلامية أتم قراءة المجموع من ذوي العافية، لا من المبتلين بالمرض؟ وها هو رجل مسجون مشلول شبه أعمى، لا يحمل إلا شهادة الثانوية العامة يحرج طلبة العلم.. ألم أقل بأنه حجة تحرج الأصحاء؟! ولعلكم رأيتم صورة نادرة للشيخ كيف يقوم بعض إخوته بمساعدته في الوضوء كي يذهب إلى صلاة الجماعة التي حرص عليها وهو من أهل الأعذار؛ فكيف بنا ونحن نكسل عن الذهاب إلى المساجد القريبة المنتشرة ولا نعاني شيئا من أمراض الشيخ؟!

ولقد حرص على أداء صلاة الجماعة، حتى أن الله تعالى اصطفاه شهيدا بينما هو عائد من صلاة الفجر.. مقعد مريض من أهل الفجر، وثمة أقوياء ممن يسابقون الغزلان يتقاعسون عن أدائها فرادى بله جماعة.. والله يا شيخ إني لأخشى أنك لم تبق لأي حيّ عذرا في عبادتك وجهادك وصبرك ورباطك.

 
سبق إخوانه فأدرك العدو خطره

هذا الشيخ المقعد كان صاحب بصيرة ثاقبة غابت عن كبار قادة الإخوان المسلمين الذين التحق بهم منذ شبابه الأول وبقي على عهده معهم حتى ارتقائه، وإن اختلف معهم. لقد استطاع الحفاظ على انتمائه للجماعة وفي ذات الوقت مخالفتها وتسيير دفتها وفق ما يراه مناسباً فيتبين لمن خالفه لاحقا صواب رأيه وقوة بصيرته. ففي وقت كان الإخوان يرون أن الصدام مع الاحتلال الصهيوني لم يأن أوانه بعد، ويردون بهذه الحجة على من يتهمهم بترك ساحة الجهاد الحقيقية في فلسطين والانشغال بالجوانب الاجتماعية، قرر الشيخ وثلة من رفاقه كسر القاعدة وتخزين السلاح في خطوة جريئة في ذلك الزمان في النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين من حيث طبيعتها العملياتية أو من حيث كون الإخوان لا يتدخلون في هذه المسائل.

واعتقل الشيخ وحكم بتهمة التخطيط (لتدمير اسرائيل وإقامة دولة إسلامية مكانها!) وكان الحكم 13 عاماً، وبرأيي أن سلطات الاحتلال قد استشعرت مدى خطورة وتأثير الشيخ أكثر من غيرها؛ فقبل ذلك تم فصلوه من سلك التعليم الذي عمل به منذ أيام الحكم المصري لقطاع غزة، والآن يحكم عليه هذا الحكم القاسي؛ وبهذه التهمة الغريبة الجديدة، علما بأن الحكم المتعارف عليه وقتها لمثل حالة الشيخ (حيازة وتخزين سلاح والتخطيط لعمليات) هي خمسة أعوام كحد أقصى ولنقل سبعة.

وبدخوله السجن، سيتعرف عن كثب على أوضاع السجون ويعايش المناضلين من الفصائل المختلفة عن قرب وما يعنيه ذلك من التقاء واختلاف وتدافع واحتكاك سيولد معرفة مباشرة حقيقية لا انطباعية. وسيدرج المعتقلون اسم الشيخ في صفقة التبادل مع (ج.ش.ق.ع) بزعامة أحمد جبريل ليخرج بعد أقل من عام وتحديداً في 1985م ومعروف أن عدداً ممن تحرروا في تلك الصفقة قادوا عملية الإعداد والحشد للانتفاضة الأولى التي ستندلع أواخر 1987.

وهنا من جديد ستتجلى حكمة الشيخ وقوة بصيرته؛ فبعد أيام قليلة من اندلاع انتفاضة الحجارة في شتاء 1987م والتي كانت شرارتها الأولى في غزة، قرر الشيخ وبمؤازرة من بعض إخوانه  أن يكون للإخوان المسلمين في فلسطين جسمٌ تنظيمي خاص يتولى مقارعة الاحتلال، وأنه قد آن الأوان لنقل الحركة الإسلامية من إطار العمل الخيري والدعوي والإصلاح الاجتماعي الممزوج بالمقاومة السلبية إلى حالة  المجابهة والمواجهة الميدانية المباشرة مع الاحتلال.

هذا الجسم التنظيمي الجديد الذي سيحمل اسم (حركة المقاومة الإسلامية/حماس) وهنا أيضاً سيقتنع من عارض هذه الخطوة من إخوان الداخل والخارج بأهميتها وأنها نقلت الصراع إلى مرحلة جديدة تماماً. إن هذه الخطوة الجريئة قد غيرت مسار الصراع وأحدثت ثورة حقيقية في معادلاته ومفاعيله؛ وهي خطوة لم يفلح الإخوان في مناطق أخرى في الإتيان بمثلها؛ وأعني تغيير الأدوات والأساليب عندما يكون هناك حدث مهم ومفصلي؛ فانتفاضة الحجارة حالة مفصلية في الصراع مع المشروع الصهيوني تتطلب أدوات وأسلوب جديدين وهذا يتطلب خطابا جديدا والخطاب بحاجة إلى تنظيم مختلف.. فهل أخرج الإخوان بعد الثورات العربية حالة مشابهة؟ ألم يظلوا يتحركون بعقليات قديمة ولم يستوعبوا أن الثورات خلقت حالة جديدة تتطلب منهم اتباع نهج مختلف عمّا سبقها من مراحل؟ والنتيجة أمامنا.

واعتقل الشيح أحمد ياسين مرة أخرى هذه المرة في 1989 ليحكم عليه بالسجن المؤبد لاحقا بتهمة تأسيس حركة حماس وإصدار فتوى بقتل عملاء للمخابرات الإسرائيلية، وتتجلى إرادة الله بأن يكون الشيخ محبوبا بحيث يتسابق أبناء حركته في السجن على خدمته، حيث الخدمة بالتداور، وهذه نعمة كبيرة، فالشيخ يحتاج إلى مساعدة في مختلف شؤونه بسبب حالته الصحية الصعبة، ومع ذلك لا يجد من يخدمونه في ذلك واجبا ثقيلا بل تشريفا وتكريما.. فسبحان الله الذي حبّب عباده بهذا الرجل.

الشيخ يدفع حركته لحالة مختلفة

في ذكرى تأسيس حركة حماس سنة 1992 تمكن مجاهدون من اختطاف رقيب في حرس الحدود الإسرائيلي (نسيم توليدانو) وطالبوا بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين فقط، وإلاسيقتلون توليدانو في موعد مضروب في بيان واضح؛ وبالطبع فإن رابين بعنجهيته وغروره وكان رئيسا للوزراء وزيرا للجيش، رفض العرض وهدد وتوعد. على كل هذا حدث تاريخي ومفصلي سأتوسع فيه في المقال القادم بمشيئة الله.. ولكن مفتاح الحدث كان الشيخ أحمد ياسين.. سبحان الله العظيم.

    سري سمور
    كاتب ومدون فلسطيني