استعراضاً للجذور الضاربة في العلاقة بين دولة الاحتلال الإسرائيلي و الولايات المتحدة الأميركية يمكن القول أنّ اليهود ولجوا لأول مرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع المكتشف كريستوفر كولومبس عام 1492 م من خلال الطاقم الذي رافقه في رحلته ، حيث ضم الطاقم ثمانية من اليهود الذين طُردوا من إسبانيا ، وكان الدافع الأساسي لهؤلاء اليهود من رحلتهم هو جمع المال والثروة، ثم تتالت هجرة اليهود للبحث والتنقيب عن الذهب، وقد وصل عدد اليهود عام 1815م في الولايات المتحدة الأمريكية إلى نحو ستة آلاف يهودي ، ثم لجأت أولى الموجات من ألمانيا بعد العام 1840 م ، حتى وصل عددهم حوالى ربع مليون يهودي إبان العام 1881م ، قادمين من اسبانيا والبرتغال وغرب أوروبا ، وبعد هذا العام حدثت هجرات يهودية كثيرة من أوروبا الشرقية خاصة من روسيا وبولندا ورومانيا ، حتى أصبح عددهم عام 1914م نحو ثلاثة ملايين يهودياً .
وفي شهر حزيران يونيو للعام 2015 نشرت صحيفة ( يديعوت أحرنوت ) الإسرائيلية إحصائية تناولت عدد اليهود في العالم وتوزيعهم ، موضحة أن اليهود يصل عددهم إلى نحو 16 مليون نسمة ،و أوضحت أن عدد اليهود في الأراضي المحتلة يبلغ (6.103.200 يهودي) ، فيما احتلت الولايات المتحدة المركز الثاني من حيث عددهم بـ( 5.700.000 )يهودي ، وبيّنت أنه منذ عام 1945، ازداد عدد اليهود في العالم باستمرار من 11 مليون نسمة إلى 14.2 مليوناً ،
وفي السنوات العشرة بين 2005 و 2015 ، ازداد عدد السكان اليهود في العالم بمعدل أكثر من 8 في المئة ، المعدل الأعلى مقارنةً بكل عقد سابق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبحسب الإحصائية فإن زخم اليهود الأكبر خارج الأراضي المحتلة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى كان من نصيب الولايات المتحدة.
و بناءً على ماسبق فإنّ أول ما فكر به القادمون الجدد عند وصولهم إلى هذه القارة هو السيطرة على التبغ ( الذي كان يتعاطاه أهل القارة الأمريكية ) والاتّجار به ، وعندما اندلعت الثورة في أمريكا كان استغلال اليهود لها على أشدّه ، ذلك أنهم استغلوا أحداثها وتاجروا بالأسلحة فباعوها للطرفين المتحاربين وتجسسوا لحساب الطرفين معاً مقابل الذهب والمال ، و حاولوا إطالة أمد الحرب الداخلية قدر الإمكان لتزداد مكاسبهم.
وقد استشعر بخطرهم المحدق وتنبأ بنرجسيتهم وآفاتهم العالم والدبلوماسي الأميركي بنيامين فرانكلين الذي عاش مراحل الثورة الأميركية ضد الاستعمار البريطاني بكل تفاصيلها وأبعادها، ومثّل الولايات المتحدة في «فرساي» في العام 1776م ، واستطاع أن يكسب شعبية كبيرة بطيبته ، ولم يغادر فرنسا إلا بعد توقيع (معاهدة فرساي) التي اعترفت بموجبها بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة ، و قد لعب هذا الرجل دوراً مميزاً في صنع الاستقلال وظهور دولة جديدة على مسرح السياسة العالمية ، هي الولايات المتحدة، وهو الذي ذاق مع شعوب المستعمرات مرارة الظلم والقهر والمعاناة.
في عام 1789م ألقى (بنجامين فرانكلين ) أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية خطاباً عند وضع الدستور جاء فيه ما يلي: "هناك خطر عظيم يتهدد الولايات المتحدة الأمريكية , وذلك الخطر العظيم هو خطر اليهود ، و بالتالي فإنه و في كل أرض حلّ بها اليهود أطاحوا بالمستوى الخُلقي وأفسدوا الذمة التجارية فيها , ولا يزالون منعزلين لا يندمجون بغيرهم , وقد أدى بهم الاضطهاد إلى العمل على خنق الشعوب مالياً , كما هو الحال في البرتغال وأسبانيا ، و قد قال البعض أنه إذا لم يُبعد هؤلاء عن الولايات المتحدة فإنّ سَيْلهم سيتدفق إلى الولايات المتحدة في غضون مائة سنة ، و سوف يكون باستطاعتهم أن يحكموا شعبنا ويدمروه ويغيروا شكل الحكم الذي بذلنا في سبيله دماءنا وضحينا له بأرواحنا وممتلكاتنا وحرياتنا الفردية ولن تمضي مئتا سنة حتى يكون مصير أحفادنا أن يعملوا في الحقول لإطعام اليهود , على حين يظل اليهود في البيوت المالية يفركون أيديهم مغتبطين ، و بالتالي فإنّ اليهود خطر على هذه البلاد إذا ما سمح لهم بحرية الدخول , و سوف يقضون على مؤسساتنا ، لكنّ المجلس التأسيسي لم يقر هذا المشروع ."
وبعد ذلك أصبحت العلاقة تتطور وتتعمق بين الحكومات الأمريكية المتعاقبة و اليهودية العالمية، على حساب الشعب الأمريكي ، واستمدت الصهيونية قوتها وعوامل وجودها من هيمنة الأسر الغنية كأسرة روتشيلد ومونتنيوري وهيرش ومارشال على سبيل المثال لا الحصر ، وتمكنت العائلات من السيطرة على معظم الاحتكارات والاتحادات الرأسمالية ، فالصهيوني لويس برانديز كان المستشار المقرب للرئيس ويلسون الذي رشحه ليكون الشخص اليهودي الأول للمحكمة العليا في الولايات المتحدة ، في حين كان بويس أرنست الساعد الأيمن للرئيس روزفلت الرئيس الأمريكي المتحدر من أصل يهودي .
وبعد أن كانت بريطانيا حاضنة للصهاينة ، وبعدما بدأ نجمها بالأفول أمام القوة الجديدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، لجأ اليهود بحكم مصالحهم إلى الولايات المتحدة ، و من الطبيعي أن يقوم اليهود بالتعرف على نقاط الحياة الأمريكية الحساسة والتي تتيح لهم التغلغل والسيطرة والتأثير على الشعب الأمريكي ، وفي نصب أعينهم مجموعة أهداف أهمها ،تعميق التأييد الروحي لليهود ، و غزو عقول القادة والساسة والمفكرين وذوي النفوذ عموماً بالآراء والمفاهيم الصهيوني ، و الربط الوثيق بين مصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ، و التخلص من مناوئي السياسة اليهودية هناك ، و التغلغل في أوساط النخبة المهيمنة على توجيه الرأي العام كالصحافة والإذاعة والتلفاز والفنانين والرياضيين والأدباء.....إلخ ، و ممارسة سياسة متناقضة ومتباينة ظاهرياً لكنها تصب في خدمة الكيان الصهيوني .
وتجلى ذلك في إعلان الزعيم الزنجي مارتن لوثر كينغ ( الحائز على جائزة نوبل للسلام ) تأييده المطلق للكيان الصهيوني , في رسالة نشرتها الصحف الأمريكية , تحت عنوان ( سلام إلى أورشليم ) مجافياً التاريخ والأخلاق , منقلباً على مبادئه , متزلّفاً للكيان الغاصب .
وفي الثاني من شهر أيار/مايو 1948 عُقِد اجتماع غير عادي للمنظمة الصهيونية في فندق (بلتيمور) في مدينة نيويورك الأميركية، ليتبنّى برنامج مجلس الطّوارئ وتضمّن البرنامج لأول مرة مطالبة صريحة بقيام دولة يهودية في فلسطين ، و في الرابع عشر من ذات الشهر ، أعلن بن غوريون زوراً وبهتاناً قيام الكيان الصّهيوني (وعودة الشّعب اليهودي إلى أرضه التاريخية) ، واعترفت بذلك الولايات المتحدة على لسان رئيسها آنذاك هاري ترومان الذي أعطى الأوامر بإلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان بعد إعلان قيامها ب 11 ساعة فقط ، وكان من مظاهر العلاقات المتوطدة والمتسارعة التصريح الذي أدلى به الرئيس ترومان ( إننا نكفل دولة إسرائيل الكبرى، حرة وقوية بما فيه الكفاية، التي تضمن لشعبها تأمين بقائها وأمنها) .
و قد ظهر الدعم الأمريكي العسكري للكيان الصهيوني أول مرة للعيان في عهد الرئيس جون كنيدي عندما زوده ببطاريات صواريخ أرض – جو ، وفي عهد الرئيس جونسون أصبح تأييد الكيان الصهيوني سافراً لا سيما بعد حرب 67 حيث شكلت العلاقات انعطافاً وتحولاً في مسيرة هذه العلاقات ،و أقامت الولايات المتحدة جسراً جوياً يربطها بالكيان الصهيوني إبان حرب 1973، وقد تحدث عنه الرئيس المصري الراحل السادات في خطابه بعد حرب تشرين/أكتوبر.
و قد كشفت صحيفة كريتسان ساينس منيتور الأمريكية ذائعة الصيت بأن إسرائيل كلفت الولايات المتحدة الكثير ماليّاً ، حيث قُدّر أنّ كل مواطن أمريكي دفع 5700 دولار بناء على عدد سكان أمريكا اليوم ، ونقلت الصحيفة عن توماس ستوفار ، وهو خبير اقتصادي في واشنطن قام بحساب تكلفة دعم الولايات المتحدة للدولة اليهودية، بأن الرقم المذكور يمثل أكثر من ضعف تكلفة الحرب في فيتنام ، ومعروف عن ستوفار أنه أثار غضب جماعات الضغط اليهودية على مدى عشرات السنين التي سخرها للبحث في النزاع الشرق أوسطي ، وتقول الصحيفة ذاتها إن إسرائيل تريد المزيد وقد طالبت في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني بدعم عسكري يقدر بأربعة بلايين دولار ، وثمانية بلايين أخرى في شكل قروض امتيازية لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها الدولة العبرية ، ويزيد ستوفار على ذلك بقوله إن مشاكل الاقتصاد الإسرائيلي تجعله يشك في قدرة الدولة العبرية على تسديد الديون أو حتى خدماتها.
و أشار ستوفار إلى المساعدات العسكرية العاجلة التي قدمتها واشنطن لإسرائيل خلال حرب أكتوبر (1973) ، والتي كانت سبباً في استخدام الحكومات العربية النفط سلاحاً ومنع بيعه للولايات المتحدة ، وقد أفضى ذلك إلى ركود اقتصادي في أمريكا كلف الخزينة الأمريكية 420 بليون دولار ، تضاف إليها 450 بليون دولار أخرى تمثل نسبة الزيادة في أسعار النفط.
وفي عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ، هز العالمَ أحداثٌ كبيرة خدمت اليهودية العالمية ،منها تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي واستقلال الدول التي كانت تحت مظلته ، وهزيمة العراق العسكرية أمام التحالف الدولي إبان حرب الخليج ، حتى في عهد الرئيس كلينتون لم يكن الدعم أقل من الإدارات السابقة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
وما ارتكبته الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن بحق العرب والمسلمين كاحتلال العراق وفرض عقوبات على سوريا والتهديد بغزوها ، ما هو إلا برهان واضح على احتلال اليهود الصهاينة للقرار الأمريكي وإعلان واضح للحرب على المسلمين والعرب.
أمّا إبان عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما فقد حصل الكيان الصهيوني على أكبر منحة عسكرية، بقيمة 38 مليار دولار في السنوات العشرة القادمة ، ويُعتبر هذا المبلغ من أكبر المبالغ الذي تلقتّه الدولة العبريّة من واشنطن منذ إقامتها في العام 1948م ، فمنذ قيام دولة إسرائيل أصبحت هذه الدولة أكبر مُتَلقٍّ للمساعدات الخارجية من الولايات المتحدة ، بمحموع يصل إلى 121 مليار دولار ، جُلّها على شكل مساعدات عسكرية.
وفي تقريرٍ صادر عام 2014م عن خدمة أبحاث الكونجرس تحت عنوان “مساعدات الولايات المتحدة الخارجية لإسرائيل” ، تمّ تسليط الضوء على هذا الدعم التاريخي لإسرائيل ، وكذلك الاعتمادات الحالية لتمويل الدفاع والمجالات الرئيسية للتعاون العسكري.
و في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب فحدث ولا حرج عن الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني ، الذي كان بلغ ذروته في الاعتراف بالقدس عاصمةً أبدية لدولة الاختلال ، و قد كشفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن أحد أثرياء اليهود ويدعى أديسون ، قد دفع مبلغاً مالياً للرئيس الأمريكي للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ، و من ثم البدء في إجراءات نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ، وبدورها رأت الصحيفة أن خطوة ترامب ستقوّض السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وستنهي الآمال في إيجاد حل للصراع في الشرق الأوسط .
ونشر البيت الأبيض على موقعه الرسمي، رسالة تهنئة من ترامب بمناسبة العيد اليهودي ، قال فيها: "نفتخر في هذا العيد بأننا ندعم الشعب اليهودي الذي يلمع بين الدول" .
وأضاف: "نؤيد شعب إسرائيل والدولة اليهودية التي لها في حد ذاتها تاريخ رائع في التغلب على الظروف غير المواتية، وآمل أن يحظى من يحتفل بهذا العيد في الولايات المتحدة، في إسرائيل وحول العالم، بإجازة ممتعة"، وفق قوله.
ليس هذا فقط بل أقرّ مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون ينص على تخفيض ملموس لمساعدات تقدمها الولايات المتحدة للسلطة الوطنية الفلسطينية قدرها 844مليون دولارحسب تصريحات كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات ، إذا لم توقف الأخيرة مساعداتها المالية لأسر الأسرى والشهداء الفلسطينيين الذين قاموا بعمليات ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ، أضف إلى ذلك تخفيض المعونة المالية المقدمة لوكالة تشغيل وإغاثة اللاجئين الفلسطينيين ( الأونروا ) إلى النصف ، والانسحاب من اليونسكو وتجميد المساعدات المالية لها بذريعة انحيازها للفلسطينيين وتحاملها على إسرائيل ..
و هكذا تمضي الولايات المتحدة في سياسة الدعم المطلق و اللامحدود على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة ، تاركةً الشعب الفلسطيني ليواجه مصيره المحتوم ، إمّا مُستضعَفاً في الداخل ، أو باحثاً عن حدود دولته في دول الشتات ..
بقلم/ عبد السلام فايز