العلاقة مع تنظيم الإخوان في مصر.. قبل إكمال ما ختمت به المقال السابق لا بد لي من الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية في هذا الظرف بالذات، خاصة حين أرى الجدل والمناكفات المبالغ فيها حاليا حول علاقة حركة حماس بتنظيم الإخوان المسلمين في مصر.
ولو كلّف المنشغلون بهذا أنفسهم وقاموا بمراجعة سريعة لحلقات برنامج (شاهد على العصر) التي سجلها الشيخ الشهيد أحمد ياسين في نيسان/أبريل 1999 مع الإعلامي أحمد منصور (قناة الجزيرة) وهي مفرغة نصيا بالمناسبة، وقد أكد الشيخ فيها أن علاقة إخوان فلسطين ومنهم هو وإخوته كانت بتنظيم الإخوان في الأردن ولم يكن لهم علاقة بإخوان مصر من الناحية التنظيمية وأنه في فترة دراسته القصيرة في مصر لم يكن له اتصالات بقادة الإخوان هناك لهذا السبب، ولكن إخوان فلسطين أفكارهم ومبادئهم والكتب التي يقرؤونها في الأسر وغيرها هي لإخوان مصر، ويعتبرون أنفسهم امتدادا لهم من حيث الأفكار ورابطة الأخوة بالمعنى الروحي والنفسي والثقافي لا التنظيمي العضوي.
وبالطبع قبل عشرين عاما لم يكن هناك لا ربيع عربي ولا ثورات مضادة، ولا ضغوطات على حماس بهذا الاتجاه مطلقا، بل على العكس كان الرئيس عرفات، وبرغم توتر العلاقة مع حماس في بعض المراحل، على اتصال شبه دائم بقادة إخوان مصر بحكم العلاقة القديمة أيام دراسته. فلا يمكن اعتبار توضيح الشيخ الحاسم لهذه المسألة التي يكثر حولها اللغط من باب التكتيك والمداراة أو لاعتبارات أمنية وغير ذلك.. بل هو وضع النقاط على الحروف.
مرحلة ما بعد توليدانو!
عملية خطف رقيب حرس الحدود الإسرائيلي (نسيم توليدانو) في كانون أول/ديسمبر 1992 حملت اسم (الوفاء للشيخ أحمد ياسين) ستظهر قضية الشيخ أحمد ياسين إلى العلن بزخم أكبر وسيهرع التلفزيون الإسرائيلي إلى السجن ويقابل، الذي سيطلب عدم قتل الأسير، ومعروف أن من هم في الميدان لا يتلقون الأوامر والتعليمات بهذه الطريقة.
وقد عثر على جثة توليدانو مقتولا لاحقا؛ في خطوة تعتبر تغيرا دراماتيكيا في المقاومة الفلسطينية؛ فهذه أول مرة تجري بها عملية خطف جندي داخل فلسطين، من قبل عناصر من حركة معروفة؛ حيث سبق وأن خطفت الحركة في بواكير تأسيسها جنديين وقتلتهما (آفي ساسبورتاس وإيلان سعدون) ولكن دون إعلان عن مسؤولية الحركة.
كما أن الهدف الآن واضح ومحدد، أي إجراء عملية تبادل، وهذا ما يعتبر تحديا للمنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية التي تسيطر على الأرض الفلسطينية ذات التضاريس غير المعقدة، حيث لا غابات كثيفة ولا جبال وعرة، ومساحة محدودة وعدد سكان قليل نسبيا، وحدود مسيطر عليها بحيث أن عصفورا لا يدخل ويخرج إلا وفق الرغبة والترتيبات الأمنية الإسرائيلية، إضافة إلى تفوق تقني رهيب، ووجود شبكات عملاء لا يستهان بقدرتها على رصد الأفراد والأماكن بكل دقة... من سبب هذه العملية؟ إنه الشيخ أحمد ياسين، من حيث المطالبة بإخلاء سبيله!
وقد جنّ جنون رابين وأصدر أمرا بإبعاد بضع مئات من قادة وكوادر وعناصر حركة حماس، وبضع عشرات آخرين من الجهاد الإسلامي إلى لبنان، وهنا سيتغير الوضع دراماتيكيا، من شتى النواحي، وستنشأ حالة مختلفة تماما في حلقات الصراع وسيرورة المقاومة الفلسطينية. فثمة تداعيات كبيرة لعملية الإبعاد منها:-
1) لبنان سيرفض استقبال المبعدين الذين رحبوا بهذا القرار، وتواصلوا مع قيادة لبنان وفعالياته، وقد دأبت إسرائيل على هذه السياسة تجاه لبنان أي أن تجعله مكانا تبعد إليه من لا تريد من الفلسطينيين، وكانت هذه المرة هي الفاصلة، حيث نصب المبعدون خيامهم في منطقة مرج الزهور.
2) المبعدون سيكونون محط أنظار شبكات الأخبار والصحافة في العالم، بحيث ستصبح الحركة التي عمرها بضعة أعوام معروفة لكل العالم، وهي قبل الإبعاد لم تكن تحظى بهذا الحجم من التغطية، بل كانت بعض وسائل الإعلام تتجاهلها تعمدا، ما سيمنحها زخما وعناصر وروافد جديدة، ولا أبالغ لو قلت إنك وقتها كنت تسمع كلمة (حماس) عشرات المرات يوميا مما هو متوفر من وسائل إعلام عربية ودولية وإسرائيلية بطبيعة الحال
3) سيصدر قرار أممي بعودة المبعدين الذين خلال عام سببوا صداعا لحكومة الاحتلال من خلال فعالياتهم المتواصلة للعودة.
4) ستحل قيادات جديدة من الداخل مكان المبعدين، والمبعدون سيبرز منهم قادة سيكون لهم شأن وباع طويل في مراحل لاحقة.. وأبرزهم د. عبد العزيز الرنتيسي الناطق باسم المبعدين.
5) هذه أول مرة يلتقي قادة حماس بهذا العدد والزخم في مكان واحد وبنوع من الحرية النسبية؛ فبعيد انتفاضة الحجارة قلّ وضعف تواصل الضفة مع القطاع، وفي السجون لا يمكن أن يتجمع القادة في معتقل أو قسم واحد وبهذا العدد، ناهيك عن الحرية النسبية في مرج الزهور، وهذا أتاح لهم التعرف على بعضهم عن كثب ومعرفة نقاط القوة والضعف وأوجه الاختلاف والطبائع وغير ذلك، ومن سيستمر في الطريق ومن سيتركه لأي سبب كان.
6) استمر العمل المسلح في الداخل الفلسطيني، بل ازداد كثافة، وتمكنت حماس من إنشاء قيادة محلية جديدة إضافة إلى قيادة الخارج، وتجديد الخلايا المسلحة الضاربة سريعا، كلما تم اعتقال أو اغتيال أفراد خلايا أخرى، مما دحض حجة إسرائيل بأن من أبعدتهم هم العقل المدبر والمخطط للعمليات، خاصة بعد كشف خلية خطف توليدانو. ما ذكر أعلاه هو بفضل الشيخ أحمد ياسين، ليس فقط تأسيسه لهذه الحركة، بل لأن خطف توليدانو كان وفاء له، وحرصا على تحريره، وبالتالي كل التداعيات السابقة وغيرها ببركة الشيخ.
رفض الشيخ الأسير عملية التسوية تماما؛ وقال للإعلام في بعض جلسات محاكمته (إن الشريعة الإسلامية لا تبيح الزنى لمن لا يستطيع الزواج، ولا يجوز لمن لا يستطيع تحرير أرضه التنازل عنها). وفترة وجود الشيخ في السجن شهدت أحداثا كبيرة وكثيفة أثرت على مسار القضية الفلسطينية وعلى المنطقة بل العالم كله، وكان من الطبيعي أن تتأثر حماس بهذا.
فقد احتل صدام حسين دولة الكويت، فسارعت أمريكا ومعها حوالي 30 دولة لتدمير العراق، وكانت النتيجة فقدان العرب أحد أقوى جيوشهم، وسقوط وتبخر خيار الحرب النظامية مع إسرائيل، وذهبوا باستسلام شبه معلن إلى مؤتمر مدريد، الذي دعا إليه جورج بوش الأب بلغة المنتصر الساعي إلى ما أسماه نظاما عالميا جديدا!
وبدأت مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف، وانهار الاتحاد السوفياتي وصار العالم محكوما من قطب واحد هو أمريكا راعية الصهيونية، ولكن تبين لاحقا أن المفاوضات الحقيقية تجري في العاصمة النرويجية (أوسلو) التي ستسفر عن اتفاق بين م.ت.ف وحكومة إسرائيل برئاسة رابين، وقد رفضت حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهات وبعض قيادات وكوادر فتح هذا الاتفاق. وفي المقال القادم إن شاء الله سأتحدث أكثر عن تداعيات الاتفاق وعملية التسوية فترة وجود الشيخ أحمد ياسين في الأسر وما بعد تحرره.
سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني