بدأ نتنياهو اتصالاته لتشكيل الحكومة الجديدة قبل تكليفه رسميا. وهو بذلك يرد على منافسه غانتس الذي احتفل وهنأ أنصاره بالفوز قبل أن ينتبه إلى أنه "بلا معسكر" يدعمه ليحقق طموحه في تقلد منصب رئاسة الوزراء.
على كل، من المبكر الحديث الآن الحديث بإسهاب عن السيناريوهات الواقعية لتشكيل الحكومة بانتظار نتائج المشاورات التي سيجريها رئيس الدولة العبرية مع الكتل الفائزة بعضوية الكنيست ومعرفة اختيارها لمن يشكلها.
وحتى بعد ذلك،سيكون أمام رئيس الوزراء المكلف جولات شاقة من المفاوضات مع الأطراف التي سيشكل معها الائتلاف الحكومي،لأن البازار المعتاد بعد الانتخابات حافل بالضغوط المتبادلة وتنافس الأطراف على المناصب الوزارية التي تخدم طموحاتها في تعزيز نفوذها في المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل.
اشتغل بنيامين نتنياهو بنشاط قبيل الانتخابات وفق خطين متكاملين،سعى في الأول لتعزيز فرص حزبه الليكود كي يحصد العدد الأكبر من المقاعد. ومن أجل تحقيق ذلك ،استثمر جميع الوقائع السياسية التي حصلت في الفترة الماضية وفي المقدمة منها مواقف إدارة ترامب حول الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي وخاصة بشأن القدس والجولان المحتلين. وزاد على ذلك بإطلاقه الوعود بضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل في حال فوزه، وهو ما زاد من شعبية الليكود في أوساط المستوطنين وحتى في صفوف جمهور الأحزاب اليمينية الأخرى وحاز على أصواتهم.
وفي الخط الثاني شجع مجموعة من الأحزاب اليمينية المتطرفة الصغيرة على الاتحاد فيما بينها لتشكل قوة انتخابية تستطيع تجاوز نسبة الحسم والدخول إلى الكنيست، من موقع إدراكه أن فوز الليكود بعدد كبير من المقاعد لن يوصله مرة جديدة إلى مقعد رئاسة الوزراء دون أن يكون من حوله معسكر من الأحزاب والكتل البرلمانية تحسم موضوعة الحكومة ورئاستها لصالحة في ظل ظهور منافس قوي مثل حزب غانتس.
في الوقت نفسه،لم يهزم تحالف "أزرق ـ أبيض"،بل خرج من الانتخابات كواحد من قطبين حزبيين كبيرين حصدا معظم مقاعد الكنيست، وهو الأمر الذي لم يحصل منذ أكثر من عشرين عاما.مع فارق مهم هو أنه مشكل من عدد من الأحزاب ومعرض للكثير من التغيرات الداخلية في حال جلس طويلا على مقاعد المعارضة، وهو ما حصل مع "المعسكر الصهيوني" الذي تآكلت شعبيته وتفككت مكوناته واعتزل بعضها العمل السياسي، في ظل افتقاده لبرامج وسياسات بديلة عما يطرحه نتنياهو وحكومته.
في حين تتعزز مكانة الليكود في المشهد السياسي الإسرائيلي، وكذلك الأمر بالنسبة لنتنياهو الذي قاد الحزب منذ انتخابات 2009 زادت خلالها مقاعد الحزب من 11 مقعدا قبل تلك الانتخابات إلى 35 عقب هذه الانتخابات (نتائج غير نهائية).
ولطالما شجع وجود قطبين حزبيين الأحزاب الصغيرة على توسيع مناوراتها في سياق المفاوضات مع أي منهما لتشكيل الائتلاف الحكومي،مع أنه في هذه الحالة لا يعبر القطبان القائمان عن معسكرين لكل منهما "حلفاء تقليديون" كما كان يحصل في السابق. فما هو قائم الآن معسكر يميني واسع وقوي انخرط معظم أطرافه في حكومات نتنياهو المتعاقبة، وعمل إلى جانب حزب الليكود على تعميق الانزياح اليميني المتطرف في المجتمع الإسرائيلي.
المواقف المعلنة لرؤساء الأحزاب اليمينية من معسكر نتنياهو أعلنت أنها تؤيد تكليفه بتشكيل الحكومة،ومع أن رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" لم يعلن ذلك إلا أنه صرح سابقا بأنه لن يكون مع غانتس،ونقلت أوساط قريبه منه رغبته في العودة إلى منصب وزارة الحرب. وفي حال تكليف نتنياهو رسميا فهذا يعني أن معركة صعبة بانتظاره.فلكل من هذه الأحزاب ملفات عالقة معه. منها "قانون التجنيد" وتناقض المواقف حول هذا الموضوع بين الأحزاب الحريدية (16 مقعدا) وبين ليبرمان، الذي بدوره متمسك بمواقفه الرافضة لملف التهدئة مع غزة ويطرح الحل العسكري عبر العدوان المباشر والواسع على القطاع .
ومن الواضح أن الفاتورة التي جهزها نتنياهو للتداول في سياق مفاوضات تشكيل الائتلاف سياسية بامتياز،وتتكئ على مواقف إدارة ترامب من القضية الفلسطينية،وبموجب ذلك،أشار محللون إسرائيليون إلى أن نتنياهو، سيعرض صفقة على شركائه المحتملين في الحكومة المقبلة،
يطلب منهم فيها أن يوفروا له من خلالها شبكة أمان لحمايته من المساءلة القانونية في ملفات الفساد التي تهدد مستقبله السياسي، مقابل سعيه للحصول على اعتراف أميركي بسيادة إسرائيل على المستوطنات في الضفة الفلسطينية المحتلة.وهو في هذا العرض يستثمر قناعة قادة هذه الأحزاب بأنه شريك في"صفقة القرن"الأميركية، ومشارك في صياغتها، ومطلع على تفاصيلها.
ويمكن القول إن تكليف نتنياهو ونجاحه في تشكيل الحكومة القادمة،يعني دخول سياسات نتنياهو في مرحلة تقارب في خطواتها إجراءات إدارة ترامب،تجاه الكثير من الملفات الفلسطينية التي ساهم اقتراب موعد الانتخابات في التعامل معها بطريقة "براغماتية" اعتمدت إغداق الوعود (تجاه غزة مثلا ) والمماطلة ثم الهروب من التنفيذ. ومن المتوقع أن يلجأ نتنياهو إلى التصعيد ضد غزة في سياق محاولة لرسم مستقبل القطاع بقوة الضغط العسكري والاقتصادي ربطا بأهداف المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، والأمر ذاته بما يخص الاستيطان وضم الكتل الاستيطانية وتصعيد إجراءات التهويد في القدس،والضغط المباشر على حياة الفلسطينيين في الضفة.
ولا يقتصر هذا التحول في آليات تنفيذ السياسات الاحتلالية على الضفة والقطاع ، بل وفي أراضي الـ48 بعدما أكد نتنياهو أن "قانون القومية" العنصري سيكون الأساس في برنامج الحكومة الإسرائيلية القادمة،وهذا يعني أن المزيد من القوانين والإجراءات والتشريعات العنصرية ستكون على أجندة الحكومة والكنيست"الجديدين".
لذلك،لا ينبغي النظر إلى عودة نتنياهو مجددا إلى رئاسة الحكومة باعتبارها استمرارا لما سبق،بل هي تدشين لمرحلة متقدمة من التغول على الحقوق الفلسطينية، وهذا مايجب على الحالة الفلسطينية أن تدركه وتنهض باستحقاقاته بدءا باستعادة الوحدة وتشكيل حكومة وحدة وطنية تحضر لانتخابات شاملة تعيد من خلالها بناء النظام السياسي الفلسطيني تحت راية البرنامج الوطني التحرري ، ومدخل كل هذا، القطع مع بقايا أوسلو وقيوده السياسية والاقتصادية والأمنية والخروج من الحالة الانتظارية التي تعيشها السياسة الرسمية الفلسطينية في رهانها على أفق ما للتسوية والمفاوضات، فلاشي يمكن انتظاره من واشنطن سوى المزيد من الكوارث والمآسي بحق الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه ومستقبله الوطني.
بقلم/ محمد السهلي