((... ففي زمن ابتدأت فيه فكرة الكفاح المسلح تخبو بل تغوص في حمأة، كوسيلة لتحرير فلسطين -كل فلسطين- ثبت الشيخ المجاهد على قراره، أن الجهاد لن يتوقف حتى تحرير كامل الأراضي الفلسطينية ولا تنازل عن حق من حقوق الشعب رافضا بكل قوة كل المبادرات والوثائق والاتفاقات....)). من كلمة متلفزة عن الشيخ أحمد ياسين للأب منويل مسلم، راعي كنيسة اللاتين في غزة سابقا.
حين كنت أعد وأجهز تتمة المقالات السابقة عن الشيخ أحمد ياسين استوقفتني هذه الكلمة المصورة للأب منويل مسلم، والتي ألقاها بمناسبة إطلاق (جائزة الشيخ أحمد ياسين) بحضور شخصيات أكاديمية وسياسية وبعض من ذوي الشيخ، والأب منويل عرف الشيخ عن قرب، وتحدث سابقا عن حماية الشيخ للكنيسة، وترتيبه إخراج الطالبات من مدرسة تابعة لها بأمان وسلام إبان المواجهات مع قوات الاحتلال.
قد يكون الأمر عاديا، فليس الشيخ أول من يمد حبال الود والتعاون مع المسيحيين من أبناء الأوطان العربية من حركة الإخوان المسلمين، بل حتى مؤسس الحركة الشيخ حسن البنا كان على علاقة طيبة بالمحامي القبطي مكرم عبيد باشا، وهو الوحيد مع والد البنا الذي سمح له البوليس السياسي بتشيـيع جثمان الشيخ بعد اغتياله بالرصاص، وقد قال عن البنا كلاما ينم عن مدى علاقة البرّ والاحترام المتينة بينهما.
فحال الأب منويل مسلم والشيخ أحمد ياسين ليس شاذا ولا غريبا من هذه الناحية لا سيما وأن فلسطين محتلة ووقع الظلم على مسلميها ومسيحييها، ولكن الذي استوقفني أن الأب منويل يتبنى شطرا كبيرا من طرح الشيخ أحمد ياسين، وكان الشيخ من ثقته به طلب مؤازرته حين حضر أساقفة مسيحيون طالبين وقف العمليات الاستشهادية في مناطق فلسطين المحتلة عام 48 من دافع إنساني، وقد آزر الأب الشيخ وخالف القساوسة، فيما يفترض أنه جاء ليقنع الشيخ بوجهة النظر هذه، وهي بالمناسبة كانت تهيمن على كثير من المجال السياسي والإعلامي، فهذا توافق أزعم أنه لم يسبق له مثيل من هذه الزاوية تحديدا، وفي تلك الفترة وذلك الموقف خاصة... وهنا نص كلمة الأب مسلم كاملة:-
في ظل عملية التسوية وبعد إعلان اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) واصلت حركة حماس أنشطتها العسكرية في الضفة والقطاع ومناطق 48 وأدخلت عليها أسلوبا جديدا هو العمليات الاستشهادية وبرز اسم المهندس يحيى عياش في هذا المجال، وكذلك نفذت حركة الجهاد الإسلامي عمليات نوعية، وصار التقارب بين حماس والجهاد كبيرا وغير مسبوق، ووقعت سلسلة عمليات أفقدت رابين صوابه... وعلى ذكر رابين سيقتله يهودي متطرف في سابقة في المجتمع الصهيوني، بعد فترة قصيرة من قيام رابين بإرسال قتلة من الموساد اغتالوا الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي في مالطة.
كانت المنطقة العربية قد دخلت في حالة انحدار غير مسبوقة؛ فقد تم توقيع اتفاق وادي عربة بين إسرائيل والأردن، وعقد مؤتمر في الدار البيضاء (كازبلانكا) بمشاركة وفد إسرائيلي كبير من ضمنه رابين وبيرس، والأول قال: جئتكم من القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل! وحين صفق الوفد كبير العدد لهذه العبارة ظهر كم كانت حالة العرب بائسة، وقد افتتحت إسرائيل عدة مكاتب تمثيل دبلوماسي وتجاري في عدة دول عربية!
كان الاستثناء لهذا المشهد الذي يظهر استعلاء الصهيونية بدعم أمريكي، هو المقاومة التي يتصدرها حزب الله في جنوب لبنان، والعمليات المسلحة التي تنفذها خلايا حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين. ولكن وضع المقاومة المسلحة في الأراضي الفلسطينية أكثر تعقيدا وحساسية من نظيره في لبنان؛ فلبنان ليس بينه وبين إسرائيل اتفاقيات موقعة، وكان لسورية حليفة إيران راعية الذراع المقاوم (حزب الله) نفوذ واسع بل وجود عسكري وأمني في لبنان؛ مع مراعاة السوريين وحساباتهم وضبطهم لعمليات حزب الله في ذلك الوقت؛ خاصة إطلاق صواريخ الكاتيوشا على مستوطنات العدو في شمال فلسطين المحتلة. وقد تحسنت ظروف المقاومة في لبنان كثيرا لدرجة أن رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وبالتعاون مع السوريين والروس انتزع اتفاقا بعد مجزرة قانا الأولى وما عرف بعملية (عناقيد الغضب) في نيسان/أبريل 1996 يعطي حزب الله حق قصف أهداف (مدنية) ردا على هجمات إسرائيلية ضد المدنيين، أي شرعنة إطلاق الكاتيوشا كرد على استهداف مدنيين وهذا كان سابقة لها ما بعدها.
أما على صعيد المقاومة المسلحة في فلسطين؛ فقد كانت خلايا متفرقة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في ظل وضع معقّد أمنيا وسياسيا واقتصاديا؛ فقد رأت حركة فتح كبرى فصائل م.ت.ف أن الوضع الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والعربي بعد هزيمة العراق، والفلسطيني بعد سنوات من انتفاضة الحجارة يقتضي المشاركة في عملية التسوية، وإعطاء فرصة للمفاوضات، واعتبرت أن اتفاق أوسلو هو خطوة نحو دولة فلسطينية مستقلة على حدود حزيران/يونيو 1967 وأن الفترة الانتقالية بمثابة استراحة محارب.
كما قلت كان هناك رفض مطلق من حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهات وحتى بعض قيادات وكوادر فتح لهذا الاتفاق، ولربما اعتاد الشارع الفلسطيني على اختلاف وجهات النظر والجدل الحادّ حول أمور سياسية مختلفة، بل حتى بعض الاحتكاكات هنا وهناك والتي كان يتم احتواؤها بسرعة غالبا، ولكن الوضع الآن تغير واختلف، في ظل بدء تطبيق اتفاق أوسلو، وهو اتفاق ترعاه قوى دولية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية... طبعا أذكر أن كل هذا كان في ظل وجود الشيخ أحمد ياسين في الأسر.
وكانت إسرائيل تسعى لزرع الفتنة وأخذ إعلامها يتحدث علنا عن (اللبنـنة) في الأراضي الفلسطينية، ما دفع الرئيس عرفات إلى الهجوم الساخر المتحدي على هذا الطرح. كانت الأطراف الفلسطينية جميعها تدرك نوايا ورغبات الصهاينة ومصممة على تفويت الفرصة، وتخييب آمال العدو، وفي نفس الوقت التمسك والتمترس بالمواقف والآليات لكل منها، وهنا تكمن العقدة الكأداء؛ فحماس مصممة على مواصلة عملياتها المسلحة وخاصة الاستشهادية، وفتح التي صارت العمود الفقري للسلطة الناشئة في غزة وبعض مناطق الضفة تصرّ على استكمال مشروعها السياسي، وهذا في ظل وضع عربي ودولي سبق وأن أشرت إليه.
وعلى صعيد حركة حماس فقد كانت تمرّ بأزمة منها لأسباب تتعلق بالوضع الجديد، وتبعاته وانقسام في الرأي داخل الحركة؛ حول استمرار العمل بآلية التنظيم الذي أسسه الشيخ أحمد ياسين ورفاقه ومن تبعهم بعد الضربات المتلاحقة من قبل الاحتلال، أم الأنسب هو الاتجاه إلى العمل السياسي ضمن حزب جديد، كما أن موضوع العمليات الاستشهادية والعمل العسكري عموما لم يكن محل اتفاق بين كل أقطاب وقادة حماس. وجبهة المعارضة لاتفاق أوسلو لم تعد بتماسكها السابق، ناهيك عن خلافات داخلية حادة لدى كل فصيل؛ وفي المقابل فإن ثمة سلطة فلسطينية على الأرض لها مؤسساتها المختلفة، ولها أدواتها الضاغطة، والمجتمع الفلسطيني تغيرت وتبدلت أحواله كثيرا. وقد أصاب حركة حماس في السجون الإسرائيلية في تلك الفترة ما يعرف بـ(الهوس الأمني) الذي كانت له تبعات سلبية على الحركة والعديد من عناصرها وكوادرها، وانعكس على بعض غلافها الاجتماعي... هذا وغيره وما أحدثه تحرر الشيخ من سجنه سأتحدث عنه في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني