من جديد تثور الأسئلة حول الأحداث التي تعصف بالأمة العربية منذ نهاية العام 2010، ولا تزال مفتوحة على المزيد من التطورات، بعد ثورة الياسمين، والتي تلتها بوقت قصير ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، نشطت التحليلات، والأفكار التي تتعلق بالتصدي للإجابة عن تلك الأسئلة، ثم ما لبثت أن انطفأت حالة الحماس للنقاش والتقييم، انقسم المفكرون، والسياسيون وهواة الكتابة حول تقييم ما يجري، فكان العنوان الأول لتوصيف واقع الحال يحمل عنوان الربيع العربي، ولكن ما أن اجتاح الإعصار دولاً أخرى، عربية، تميز الصراع فيها بالدموية والتدمير، حتى ارتد الكثيرون نحو الحديث عن خريف عربي، لقد ألهمت رائحة الدمار وآثار الدمار الكبير الذي أصاب عديد المجتمعات العربية، عقول الكثير من السياسيين والمفكرين والكتّاب، للحديث بشعور من التسليم بوجود مؤامرات، ومخططات تقسيمية، لا تملك الشعوب العربية قدرة على إفشالها.
ان الحديث عن مخططات تستهدف تقسيم المقسّم، وسايكس بيكو جديد، وفي الدور الخارق الحارق للتدخلات والأطماع الخارجية هو أمر واقعي، لكن غير الواقعي في التقييم، هو في مدى صلابة البنى المجتمعية العربية، وفي مدى توفر العوامل التي تمكنها من إفشال ورد تلك المخططات.
لا يمكن بطبيعة الحال تجاهل مدى تأثير التدخلات الأجنبية، القريبة والبعيدة، كعوامل نافذة في تحديد الثمن الذي تدفعه المجتمعات العربية في خضم التوجه نحو التغيير، ولكن العامل الحاسم يبقى لشعوب المنطقة بالدرجة الأساسية. هذا يعني أن التقييم لما جرى ويجري في المنطقة ينبغي أن يلاحظ السياق التاريخي، الذي لم يعد يسمح لأنظمة الاستبداد في الاستمرار، بتأبيد آليات التخلف في زمن التطور والتقدم الهائل.
المنطقة العربية ليست استثناءً، وهي التي تملك إمكانيات، وثروات هائلة يجري تبديدها عبر أنظمة فاسدة، ومرهونة، للاستعمار الجديد بأدواته، وآليات تدخله الخبيثة.
إذا كانت الشعوب العربية في تونس، وبعدها مصر، قد نجحت في حماية دولها من التمزق، ومن فتح الأبواب أمام التدخلات الخارجية وتجنب عملية التدمير الذاتي، كما وقع في مجتمعات عربية أخرى، مثل ليبيا وسورية، واليمن، فإن المجتمعات العربية في الجزائر والسودان، قد استوعبت التجربة، قد لا يعرف الجميع مدى صلابة شعب المليون ونصف المليون شهيد، والذي خاض معركة شرسة ضد الإرهاب قبل الربيع العربي، ولكنه اليوم يخرج بكل أطيافه السياسية، وخلافاته، وتناقضاته، ليخوض معركة التغيير، بشكل سلمي.
وكما في الجزائر، يمضي الشعب السوداني المقهور بظلم واستبداد الطغمة العسكرية، التي تتغطى بالإسلام، يمضي بشكل سلمي نحو عملية التغيير الجذري. في العام يبدو أن الجيش هنا وهنالك يلعب دوراً وطنياً مسانداً وحامياً لمتطلبات عملية التغيير، لكن الناس لم يعودوا يملكون الحدّ الأدنى من الثقة بالحكم العسكري. في الحالتين في الجزائر وفي السودان، يتخذ العسكر مواقف جيدة، تستجيب جزئياً إلى مطالب المجتمعات، لكن الناس لم تعد تقبل بالإصلاحات، وعمليات الترقيع، والمراحل الانتقالية المحكومة لقرارات العسكر.
الشعارات التي يرفعها الناس الذين لا يغادرون ساحات الاحتجاج تطالب وتسعى نحو تغيير كلي للنظام السابق، أي عملية هدم وإعادة بناء على أساس استعادة الأمانة بكون الشعب هو مصدر السلطات.
لقد اكتوى الناس بألاعيب ووعود الحكومات العسكرية، وبالخوف من فزّاعة الاستعمار والتدخلات الخارجية، ولذلك فإنهم باتوا اكثر وعياً لمتطلبات وآليات عملية التغيير.
في السودان قدم المجلس العسكري بعد الإقالات التي تمت لعديد المسؤولين جملة من الوعود، بعضها قد دخل حيز التنفيذ، خصوصاً ما يتعلق بحزب البشير، وبعض رموزه، لكن الأمر يحتاج إلى حوار حقيقي مع القوى السياسية والمجتمعية للاتفاق على كيفية إدارة وأولويات عملية التغيير المطلوبة تعطي التجربة السودانية دروساً للمجتمعات العربية الأخرى حول أهمية الدور الذي تلعبه مؤسسات المجتمع المدني من خارج الأحزاب السياسية.
المخاوف من الارتداد، ليس مصدرها فقط تلاعب العسكر ومحاولات الالتفاف على مطالب الجماهير ومتطلبات عملية التغيير الشامل والحقيقي وإنما، أيضاً، من محاولات التدخل الخارجي، لحرف الاحتجاجات السلمية عن سلميتها. الجيش في هذه الحالة ينبغي أن يؤكد وطنيته وانحيازه لمطالب الناس، بحماية الطابع السلمي للاحتجاجات خشية أن تندس بين الصفوف جماعات تستخدم السلاح وخلق الفتنة.
ما يجري في بلد المليون ونصف المليون شهيد، الذي لم تجفّ بعد دماء شهدائه، وما يجري في السودان، ينبغي أن يدقّ الأجراس عالياً، حتى تصل الرسالة لمن لا يريد أن يرى ويسمع.
أميركا وإسرائيل لا تقويان على حماية أي نظام حين تخرج الجماهير بكلّيتها مطالبة بالتغيير وساعية من أجله ومن غير الممكن في أمة واحدة أن يكون في بعض أهم أجزائها أنظمة مدنية تضع أقدامها على طريق التقدم والحداثة، وأخرى لا تزال ترزح تحت أقدام الاستبداد والتخلف فالعوامل المناخية واحدة في هذه المنطقة.
بقلم/ طلال عوكل