يقوم العمل الصحفي بكل أشكاله على جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها للجمهور المتلقي وفي كثير من الأحيان تكون المعلومات المستقاة من مصادرها المختلفة مبنية على أرقام أو تقدم المصادر فيها أرقام وحسب وهذا بحد ذاته عمل يحتاج من العاملين في قطاع الإعلام جهداً إستثنائياً قبل تقديمها بصيغتها النهائية للجمهور المتنوع الثقافات والعادات والاهتمامات، وبما أننا دخلنا عصر تنوع أدوات وآليات نقل الخبر أو المادة الإعلامية وبات التنافس بينها شديداً في إستقطاب الجمهور لدرجة أنه لم يعد هناك وسيلة إعلام وطنية أو دولية تعتد بنفسها بأنها الأكثر إقبالاً ومتابعة من المتلقين وهو ما تأكده الإحصاءات المحلية والعالمية فإن الأرقام الواردة في السرد أيضاً لا تقل أهمية عن المواد الإخبارية الأخرى التي تتسابق وسائل الإعلام في نقلها للجماهير. وعليه أصبح لزاماً على وسائل الإعلام تقديم هذه الأرقام بقوالب جاذبة ومقياس النجاح بلا شك سيكون بمقدار مدى تأثير هذه الأرقام والصيغ المقدمة بها على نقاشات الجمهور وتداولاته بما يعرف إعلامياً برجع الصدى.
ومرجعية ودلالات الأرقام لا حصر لها ومتنوعة في مراميها ومنها ما هو مالي أو متعلق بغلاء الأسعار ومعدلات إرتفاعها أو يدلل على إقبال أو إمتناع عن مشاركة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية عبر الاستنكاف أو يشير إلى ضحايا وأعداد بشرية وغيرها من المداليل المتنوعة كاستطلاعات الرأي تجاه مختلف القضايا.
وهنا فإن مهام الصحفي لا تقف عند نقل الأرقام بطريقة السرد المجرد كونه من الأخطاء القاتلة التي تدفع الجمهور للعزوف عن المتابعة فليس من مهام مراكز الإستطلاع أو مراكز ومؤسسات الإحصاء أو الوزارات أن تشرح قيم ومعاني الأرقام بقدر ما هي من مهام العاملين في قطاع الإعلام مع الأخذ بعين الاعتبار أن مقدرة الصحفيين في التحليل وأنسنة الأرقام غير متعادلة وهو ما يستوجب تدريبات وربما مساقات دراسية في كليات الإعلام بما يمكن الإعلامي على تقديم الأرقام بصورة أكثر فهماً ووضوحاً وببساطة يستطيع المتلقي لها تكييف حياته وإتخاذ مواقفه تجاهها.
الرقم بحد ذاته لا يخبرنا بشيء كونه مجرد رسم أو صورة ما لم نقارنه بفترة زمنية أو رقم شبيه وهو ما سيعطيه إمكانية الرسوخ في أذهان من يطلعون عليه ويملكهم قدرات تحليلية ونقاشية، عدا عن أن لكل رقم قصة وخلفه الكثير من التفاصيل وهذا سيعني بالضرورة الإبتعاد على الأرقام الكبيرة كصيغة رقمية وضرورة تقريبها كتابياً مما سيساعد في وصول الصحفي والإعلامي لزوايا إنسانية.
وهنا من المهم القول أن إستخدام الرسومات الجرافيتية أو البيانية والأشكال من شأنه كسر حدة الأرقام وجمودها ولكنه ليس بالأمر الكافي فمثلاً من غير المعقول أن تتغنى وسيلة إعلام ما أن نسبة مشاهديها تصل إلى 20% من الشعب الفلسطيني أو أكثر أو أقل لأن تقديم الرقم المجرد لا يعطيها الصدارة بقدر ما يجب أن يفتح نقاشاً حول التخطيط الذي تتبناه من خلال طرح أسئلة جدلية من نوع أن 20% من جمهور كالجمهور الفلسطيني الذي يصل تعداده في الضفة الغربية وقطاع غزة لحوالي أربعة ملايين مواطن يتابعها أي أن حصتها مليون مشاهد ولكن لماذا يعزف ثلاثة ملايين عنها وماذا يجدون عند غيرها ولا يجدونه فيها؟
وعندما نتناول عدد الأسرى في سجون الاحتلال نتمترس خلف رقم ستة ألاف أسير أقل أو أكثر دون الإشارة إلى عدد من يعانون جراء إعتقالهم من أباء وأمهات وأبناء وزوجات قد يصل إلى عشرات الألاف وماذا سيكون واقع الحال لو كانوا أحراراً طلقاء، وكذلك الحال بالنسبة للشهداء والجرحى وماذا يمكن أن يقدموا لو لم يصابوا أو يقتلوا؟
ما دفعني لكتابة هذه المادة هو حفل التكريم الذي نظمته جامعة بيت لحم لمن عملوا فيها مدة خمس وعشر وخمسة عشر وحتى الأربعين عاماً وقد شرفني أن أكون أحدهم وعددهم 76 هو حديث لجنة التكريم عن أن مجموع سنوات الخدمة لهؤلاء تعني أننا لو عدنا بها للوراء لكنا في العام 973 ميلادي وأتبع المتحدث حديثه بالقول تصوروا لو أن هذه المعارف كانت موجودة في ذلك الزمن فأي واقع كنا سنكون عليه.
وبالعودة لقضية الأسرى فعند تناولها نتحدث عن ستة ألاف أسير يقبعون اليوم في السجون في حين حل بها أكثر من مليون فلسطيني من بينهم 16 ألف إمرأة فإننا نغفل الحديث المقارن للأرقام بدول مثل الصين أو حتى الولايات المتحدة والهند لو كان عددنا بعدد هذه الدول وأية ملايين كانت ستكون في سجون الاحتلال الإسرائيلي وأي وقع كان سيكون للأرقام على المتلقي وقس على ذلك أعداد الشهداء والجرحى .
وهو أمر بلا شك يجب التنبه له عند الحديث عن النكبة وأعداد اللاجئين الفلسطينيين وبناهم الاقتصادية والاجتماعية وأي واقع كانت فلسطين ستكون عليه لو بقوا هؤلاء على أرضهم يطورون فيها هويتهم وثقافتهم ووجودهم.
وبالمقارنة مع الإعلام العبري نرى أنه عند تناول مقتل مستوطن أو جندي في عملية يتم التركيز على العمر بقيمته الإنسانية وإرفاق الخبر بصورو ذات دلالات مفعمة بالحيوية أو تناول عدد الأفراد في الأسرة والأحفاد الذين تأثروا بفقدان القتيل ما يعني للمتلقي أن القتيل ليس فرداً بل جماعة وهو ما لا يتقنه إعلامنا الفلسطيني.
وفي الشأن الاقتصادي عند تناول مثلاً معدلات غلاء الأسعار أو المعيشية فورود الأرقام الكسرية غالباً لا تعني للمتلقي شيئاً ما لم تقرنالأرقام بالسلع التي لم يعد بإمكانه الحصول عليها كما في السابق وخاصةً السلع الأساسية وهذا أيضاً ينطبق على إحصاءات وأرقام الجهاز المركزي للإحصاء والتي قد لا تعني للكثيرين شيئاً ما لم ترفق بقضايا حسية.
خلاصة القول بأن أنسنة الأرقام وتوضيحها حسياً في تناول وتنفيذ المواد الإعلامية مسألة بحاجة للمراجعة والتبني في المخرجات الإعلامية باعتبارها سمة هامة في عصر الإعلام المؤثر والتفاعلي ولا سيما وأننا لا زلنا في الصحافة الفلسطينية والعربية نتلمس الخطى فيها وهذا يتطلب تكييف المواد الأكاديمية في معاهد وكليات الإعلام وتنظيم ورش عمل ودورات تدريبية للعاملين في القطاع متخصصة في هذا الجانب.
بقلم/ خالد الفقيه