لم يغب أبو نضال حتى نرثيه. فالرجلُ المتواضع الذي تجرّأت على جسده السنوات ، أراه متّقداً ، يخرج النَّحلُ من فمهِ ، وما زال عقرب قلمهِ في النار.
صبحي شحروري اسمٌ لرائدٍ من روّاد فلسطين، بل لعلهُ من القلائلِ الذين أسسوا لفن النقد في هذه البلاد الثُكلى ، ليجعل الأدب قادراً على التوالد، ويظهرُ ذلك جليّاً من خلال مداخلاته المبكّرة والنوعية ، والتي أرهص بها من خلال مجلة "الأفق الجديد" منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، فأصبح لدينا نقدٌ قادرٌ على مواكبة ما يصدر من إبداع في فِلسطين، التي وقع عليها ظلُّ الاحتلال الثقيل .. وكاد يخنقها.
إنّ ما ميّز الناقد صبحي شحروري أنه صاحب حمولة معرفيّة عميقة وواسعة ، بمعنى أنه لم يتناول النتاج الأدبي بخفّة الانطباع أو بمزاجيّة البديهة، لكنه زاوج بين السليقةِ والنظرية، وكان قادراً على هضم ما وصل إليه أو ما سعى إليه من نظريات ومدارس في النقد والأدب، علماً بأن تلك المرحلة كانت تمور بالكثير من النظريات الفلسفية والفكرية وبالتيّارات الجدليّة ، والتي تصادمت وتصادت في أرجاء العالم، من الوجوديّة إلى
الماركسية إلى أدبيّات القوميّة ، وخاصة في عالمنا العربي الذي زخر بكل تلك المصطلحات والمضامين.
وربما نقول إن المثقفين العرب لم يستطيعوا أن يبلوروا رؤى نقديّة أو نظرية أدبية بعينها، من قلب ذلك المِرجل الذي كان يفور بالأفكار والمقترحات والتجريب ، لكن صبحي شحروري تمكّن من أن يبلور لنفسه، ومع قلّة قليلة من النقاد العرب، رؤية نقدية، تمكّن من خلالها لأن يتلقّى النتاج الأدبي بحصافة ودراية، جعلت من نقدهِ جداراً يساند الأدب مثلما يضيئه من الداخل، بل ويفتح له مسارب جديدة، بعد أن يُخلّصه من شوائبه ومهابطه، ويدلّه على السياق الأجمل والصحيح.
لقد اختلف النقّاد حول النقد ؛ هل يسبق الكتابة الأدبية ليرشدها ويقودها ويؤسّس لها طرائق يجب أن تسير فيها؟ أم أن النقد تابع للكتابة ويأتي بعدها ليشرح ويعلّق، بمعنى أن كل أدب يخلق نظريته النقدية الخاصة به ؟
وبصرف النظر عما إذا كان النقد سابقاً أم لاحقاً، لكن صبحي شحروري عمل بالنظريّتين، إذ وضع قواعد وخطوط عريضة نقدية لتكون أرضاً راسخه للكُتّاب والأدباء ، مثلما تتبّع النتاج الأدبي وترسّم خطاه وعمل على تفكيكه وتبيان مقوّماته وإرشاد صاحبه.
ولا يفوتنا القول إن صبحي شحروري باعتباره كاتب قصة أيضاً .. فقد قدّم للأدباء نموذجاً يُحتذى، أو أنه أراد أن يعطيهم مثالاً ليهتدوا به.
وأبو نضال ألذي كنت أعتبره أباً، هو ذاته الرجل العملاق بروحه، والذي استطاع أن يجمعنا حوله ويقرأنا بلطف لا يخلو من حدّة أحياناً، وهو ذاته أيضاً الرجل الذي علّمنا كيف يتواضع الكبار، وكيف يتجلّى دورهم في حمأة الحراك الثقافي، وكيف يجد لنفسهِ الآليات التي تحميه من ضربات الاحتلال وملاحقاته الفاشية.
باختصار؛ إن الحركة الثقافية الفلسطينية في أعوامها الستين الأخيرة كان لها والدٌ وقائدٌ ورائدٌ اسمه صبحي شحروري. وعلى هذه الحركة الثقافية أن تُعلي من شأن هذا النموذج، ليبقى مثل السنبلةِ الحرّة التي فاضت بآلاف السنابل، علاوة على أنه من الأوائل الذين واجهوا تداعيات النكبة والهزيمة على المستوى الثقافي، وكرَّس وعمّق المناعة الثقافية، ببطانةٍ تطهريّة، كتابةً وسلوكاً.
ولا يسعنا إلا أن ننحني لهذا الرجل الرنّان بحضوره المضيء المتوهّج، رغم غياب جسده.
ويكفي أنه ترك في قلوبنا أغنية ، تشبه رهافة وبراءة قلمه الخالد.
بقلم/ المتوكل طه