اتفاق أوسلو الذي سمي بالإنتقالي ومضى عليه ربع قرن بالتمام والكامل،وما نتجه عنه من سلطة مقيدة الصلاحيات وبدون أي شكل من اشكال السيادة على الأرض ،خلق حالة وهم عند الجانب المتنفذ في السلطة وقيادة منظمة التحرير ،بان الدولة باتت واقعاً،وبأن مرحلة التحرر الوطني قد انتهت،والان مرحلة بناء الدولة،ولذلك جرى " التغول" على منظمة التحرير الفلسطينية من قبل السلطة وصادرت دورها وصلاحياتها وجوفت مؤسساتها وأفرغتها من محتواها الوطني،وما أصاب المنظمة ،أصاب الجيش المرتبط بها،والمقصود هنا المناضلين المنتمين للمنظمة بمختلف تلاوينهم السياسية،وليصيب ذلك حماس بعد أن فازت بالانتخابات التشريعية في 2006،وسيطرت على السلطة في قطاع غزة،والتي بعد الحصار والعقوبات المفروضة على القطاع،أصبحت تنتظر شنط والي غزة القطري العمادي...ومن هنا جرى تحييد وإخراج الألآف من كوادر الحركة الوطنية من الفعل الكفاحي والنضالي،وباتت الرتب والرواتب وربط مجمل حياتهم بمؤسسات النهب الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين) الهاجس والهم الأكبر،ولذلك وجدنا بأن معظم الهبات الشعبية التي اندلعت في القدس وغيرها منذ تموز /2014 ولغاية الآن لم تفلح رغم نضوج كل الشروط الموضوعية من احتلال شرس بكل تمظهراته العسكرية والأمنية والاقتصادية وما يرتبط بذلك من اليات لإجراءات وممارسات قمعية وتنكيلية وبرامج وخطط للتهويد والأسرلة من الإنتقال من الهبات الشعبية المحلية الى انتفاضة شعبية شاملة،حيث الكابح لذلك الظرف الذاتي الفلسطيني.
استمرت السلطة في التعامل مع عناصرها وفصائلها بمنطق الزبائنية والرشوات،من يسير في الركب ويوافق على نهج السلطة وخياراتها يثاب،ومهما كان صغر حجم تمثيله أو شعبيته ،او جماهيريته،يمثل في قمة الهرم السياسي،منظمة ومؤسساتها وسلطة ومؤسساتها،وتغدق عليه الأموال والمناصب و"نعم" أوسلو،ومن يتعارض او يرفض نهج السلطة وبرامجها يقطع عنه صنبور المال الشهري،والذي أصبح يرهن إرادة التنظيمات ومواقفها لهذا المخصص الشهري،ولتكن التفرغات والرتب والرواتب وصنابير المال الشهرية،مقتل الحركة الوطنية والفصائل الفلسطينية.حيث أن الفصائل الفلسطينية التي رفضت ربط إرادتها السياسية بصنبور المال الشهري،تعرضت للعقاب من قبل قمة الهرم السياسي المسيطر على القرار الفلسطيني وحده دون غيره ،رغم أن هذا المال ليس ملك فرد أو جهة،بل مال للشعب الفلسطيني.
ولذلك ما حدث في فدا وحزب الشعب يحدث في الفصائل الفلسطينية الأخرى وبنسب متفاوته،حيث نمت مصالح وامتيازات لأفراد ومجموعات مصالح لتسيطر على مراكز تلك القوى والأحزاب،وأصبحت بحكم إمكانياتها وعلاقاتها ذات تأثير كبير على سياسات ومواقف حزبها أو تنظيمها ...ومن هنا أقول بأن القول بأن عقد التجمع الديمقراطي سينفرط،لكون بعض أطرافه تعيش أزمات داخلية عميقة،لا اعتقد بان ذلك دقيقاً،فالتجمع الديمقراطي،وان كان التصدع او التشققات في بعض أطرافه ستلقي بظلالها على مستوى الثقة والأمل بهذا التجمع،ولكن علينا أن نعي ونفهم بأن هذا التجمع،هو ائتلاف قام بين قوى ومؤسسات أهلية حول قضايا سياسية ومجتمعية،ولا يمكن ان يكون هناك تطابق كلي بين اطرافه في القضايا السياسية او المجتمعية ،إلا اذا انتقل الى مرحلة الإتحاد السياسي،وبالتالي تصبح القضايا السياسية من طراز المشاركة في الحكومة من عدمها محط اجماع اطراف التحالف،ولكن في مرحلة الإئتلاف يمتلك الحزب او أي طرف في التحالف الحق في التعبير عن موقفه دون ضغط من بقية الأطراف،وذلك لا بد من العمل والإستمرار من اجل ترسيخ التجمع الديمقراطي كإئتلاف ...وفي سياق هذا الإئتلاف تحسم مواقف وقضايا وتحدث خلافات ويخرج طرف ويدخل طرف أخر ريثما يتم حسم الأمور ونضحها في سياق العمل والميدان،ولكن لا يمكن اتخاذ خطوة بحل او انهاء التجمع للعودة الى سياسة الزبائنية مع الطرف المتنفذ او التعامل بمنطق الرشاوي والمصالح،نحن بحاجة الى استراتيجية ورؤيا تخرجاننا من هذا النهج والخيار،نحن بحاجة الى وحدة وطنية تقوم على أساس برنامج وطني توافقي وشراكة حقيقية .
نحن نشهد حالة غير مسبوقة من التراجع في حضور وجماهيرية وكفاحية كل القوى والمكونات والمركبات الوطنية السياسية الفلسطينية على اختلاف تلاوينها ،ودرجة الثقة بها من قبل الجماهير أخذة بالإنخفاض،وهي ترى بان العديد من تلك الفصائل لم تعد اكثر من ظاهرة صوتية، لا تستطيع الحشد لأي قضية في إطار مقارعة الاحتلال والتصدي لمشاريعه ذات الطابع الميداني أو حتى التي لها أبعاد سياسية ،ونجد بان تلك الفصائل ازماتها الداخلية تتقدم على تفرغها لمقاومة الإحتلال .
أوسلو بلغة ثعلب السياسة الإسرائيلية شمعون بيرس،هي الإنتصار الثاني لدولة الاحتلال بعد النكبة،بل تداعياتها على القضية والمشروع الوطني الفلسطيني أكبر وأخطر من تداعيات النكبة،فنحن لم نعد أمام مشروع وطني جامع ولا حتى قيادة وعنوان فلسطيني واحد،فنحن نقف امام حالة من التمزيق والتشظي والتفتيت للنسيج الوطني والمجتمعي بفضل " نعم" أوسلو،وما نشهده من إنشطار وتشظي جغرافي وإنقسام سياسي،هو نتاج لهذه "النعم"،ورغم كل الدمار الذي أحدثه أوسلو في واقعنا الفلسطيني من انقسامات عمودية وافقية وطنياً ومجتمعياً ،نجد هناك من يستمر بالدفاع عن هذه الإتفاقية الكارثة،لكي يقنعنا بان " الثور يحلب"،وهو في قرارة نفسه يعترف بأن هذا الاتفاق كان كارثة حقيقية على كل الصعد،فهو فرغ الكثير من المناضلين من محتواهم الوطني والنضالي والكفاحي،ومن لم يجر تطويعه منهم جرى تحييده،وأبعد عن مصدر القرار.
الآن يتضح حجم الكارثة التي جلبها لنا أوسلو، بعد أن جرى تقديم قضية الرتب والرواتب على قضية الوطن ،حيث أن الاحتلال أقدم بالسطو على جزء من أموال المقاصة الفلسطينية،504 مليون شيكل سنوي ،مقدار ما تدفعه السلطة من رواتب للأسرى وعائلات الشهداء،ولكي نكتشف بأن ربط مصير موظفي السلطة والأسرى والشهداء بإشتراطات الاحتلال، يدفع بنا نحو كارثة حقيقية،حيث لم تعد السلطة قادرة على دفع رواتب موظفيها والأزمة أخذة في التفاقم والتعمق،وحلها مرتبط بتقديم تنازلات جديدة من السلطة الفلسطينية ،وهي اذا ما أصرت على الثبات على موقفها ستخاطر بشطب ذاتها وتدمير كل مصالحها وإمتيازاتها،ولا أعتقد بان سلطة ما زالت تراهن على ماراثون المفاوضات العبثية،قادرة على التحلل والفكاك من أوسلو والتزاماته.
واضح بان عملية النحر التي تتعرض لها الحركة الوطنية ،تدفع نحو تغيرات واسعة في التراتبية الفلسطينية، بحيث لم تعد القوى والفصائل الفلسطينية والسلطات القائمة في رام الله وقطاع غزة قادرة على الإمساك بالقرار الوطني الفلسطيني،بل تتشكل في الواقع تراتبية سياسية – اجتماعية جديدة،تعبر عن تحالف قوي بين رأسمال المال وبالذات الشريحة البيروقراطية منه،مع القوى والفئات المتنفذة في الطبقة السياسية الفلسطينية، وهذا يقود الى شطب متدرج للقوى والفصائل الفلسطينية،لكي يحل محلها هذا التحالف، الذي سيكون جزءاً من منظومة النظام الرسمي العربي المتعفن،والساعي الى التعاون والتحالف مع دولة الاحتلال،وبما يشطب ويصفي حقوق وقضية شعبنا الفلسطيني.
القدس المحتلة – فلسطين
27/4/2019
بقلم/ راسم عبيدات