تم توقيع اتفاقية باريس الاقتصادية قبل عشرون عاما , بتاريخ 29/4/1994 في مدينة باريس كأحد الملاحق الهامة لاتفاقية أوسلو و كان من المفترض أن تكون فترة تلك الاتفاقية للمرحلة الانتقالية لمدة خمس سنوات , لكن للأسف الشديد استمرت حتى يومنا هذا.
وبعد ربع قرن على توقيع اتفاقية باريس الاقتصادية , أصبحت من الزمن الماضي حيث أنها لم تعطى أي فائدة أو تضيف أي عائد على الاقتصاد الفلسطيني , بل ساهم استغلال الجانب الإسرائيلي لبنودها وتفريغها من محتواها وعدم تعديلها وتطويرها بما يتلائم مع المتغيرات الاقتصادية المحلية و العالمية إلى تدهور حال الاقتصاد الفلسطيني و الحد من نموه ونشاطه , كما أن الاتفاقية أضعفت القدرة على الإنتاج واستغلال الأرض والموارد الطبيعية الفلسطينية وتطوير التجارة والصناعة والزراعة و الاستثمار في فلسطين.
و ساهمت اتفاقية باريس الاقتصادية في تحجيم دور السلطة وعدم سيطرتها على المصادر الطبيعية و المعابر الحدودية وربطت الاقتصاد الفلسطيني الناشئ ذات النمو المحدود بالاقتصاد الإسرائيلي القوي ذات النمو الكبير والذي اعتبره البنك الدولي من ضمن أفضل الاقتصاديات في العالم , مما كان له الأثر الكبير في إضعاف و تدهور الاقتصاد الفلسطيني وحدوث فجوة كبيرة بين مستوى المعيشة لدي الطرفين حيث بلغ الحد الأدنى للأجور في إسرائيل 5300 شيكل شهريا , وهذا يوازي ثلاث أضعاف الحد الأدنى للأجور في المناطق الفلسطينية والذي تم تحديده بمبلغ 1450 شيكل شهريا ، وهو دون خط الفقر الذي بلغ للأسرة الفلسطينية المكونة من 5 افراد (2 بالغين و3 اطفال) 2470 شيكل، و خط الفقر المدقع الذي بلغ 1974 شيكل لنفس الاسرة ، وهذا بالرغم من التقارب الكبير في أسعار المواد الاستهلاكية و الأساسية لدى الطرفين.
كما ساهمت المعيقات الإسرائيلية إلى ضعف كافة الأنشطة الاقتصادية الفلسطينية , مما تسبب في ارتفاع معدلات البطالة في فلسطين وبحسب مركز الإحصاء الفلسطيني ووفقا لمعايير منظمة العمل الدولية فإن نسبة البطالة في فلسطين قد بلغت 31% وبلغ عدد العاطلين عن العمل 450 ألف شخص في فلسطين خلال عام 2018، منهم حوالي 150 ألف في الضفة الغربية وحوالي 300 الف في قطاع غزة ، و ما يزال التفاوت كبيراً في معدل البطالة بين الضفة الغربية وقطاع غزة حيث بلغ المعدل 52% في قطاع غزة مقابل 18% في الضفة الغربية , وتعتبر معدلات البطالة في قطاع غزة الأعلى عالميا، بينما يبلغ معدل البطالة في إسرائيل 4.1% وهذا يوضح الفجوة الكبيرة الموجودة بين نشاط ونمو الاقتصاد الفلسطيني والإسرائيلي.
ومن أهم بنود اتفاقية باريس ربط ضريبة القيمة المضافة بين المناطق الفلسطينية و الإسرائيلية و استخدام الغلاف الجمركي الإسرائيلي , حيث يتحكم الجانب الإسرائيلي بنسب الضريبة المضافة بما يتلائم مع الأوضاع الاقتصادية في إسرائيل وتبلغ نسبة الضريبة المضافة في المناطق الإسرائيلية حاليا 18% و في المناطق الفلسطينية 16% حيث أن الفرق المسموح به يجب ألا يتجاوز 2% حسب اتفاق باريس الاقتصادي , ومما يذكر بأن نسبة الضريبة المضافة كانت 14.5% في المناطق الفلسطينية قبل رفع إسرائيل النسبة ، و هو ما تسبب في زيادة الأسعار على المستهلكين ، و زيادة تكاليف الإنتاج للمنتجات الوطنية ، الأمر الذي أثر بشكل سلبي على المواطنين و حملهم أعباء مالية إضافية.
كما ربطت إسرائيل من خلال اتفاقية باريس الاقتصادية أسعار المحروقات بالمناطق الفلسطينية بالتسعيرة الإسرائيلية , مع السماح بوجود فرق للمستهلك الفلسطيني لا يتجاوز 15% من السعر الرسمي النهائي للمستهلك في إسرائيل , وتحصل إسرائيل على ما يعرف "بضريبة البلو" البالغة حوالي 3 شيكل عن كل لتر من مشتقات البترول يباع سواء في "إسرائيل" أو في مناطق السلطة الفلسطينية هذا بالإضافة إلي ضريبة القيمة المضافة البالغة 18% ، و هذا يعني أن كل لتر من مشتاقات البترول يباع في السوق يتحمل ما قيمته 3.5 شيكل و هو ما يشكل 50% من سعر اللتر يذهب لصالح الضرائب , وتعتبر هذه النسبة من أعلى النسب في العالم.
و منحت اتفاقية باريس الاقتصادية الحق للجانب الإسرائيلي بتحصيل كافة الضرائب و الجمارك على الواردات الفلسطينية و على المبيعات الإسرائيلية في الأسواق الفلسطينية ومن ثم تحويل تلك الأموال إلى حساب السلطة , مما أدي إلى تحكم إسرائيل بتلك الأموال و استخدامها للابتزاز السياسي و هو ما ساهم في أزمة السلطة المالية , كما أدى عدم سيطرة السلطة على المعابر إلى انتشار التهرب الضريبي ، و وفقا لاتفاقية باريس الاقتصادية يفترض أن تحول إسرائيل إلى السلطة الإيرادات المتسربة من الضرائب على الواردات المباشرة وغير المباشرة .
والمطلوب الآن السعي بجدية لتطوير و تعديل اتفاقية باريس الاقتصادية بما يتلاءم مع المتغيرات الحالية المحلية و الدولية و ضرورة إعطاء أولوية للجوانب الاقتصادية والمعابر في أي اتفاقية سياسية مستقبلية وإعطاء ضمانات بحرية حركة البضائع علي المعابر التجارية وحرية حركة الإفراد علي المعابر الدولية على مدار العام.
بقلم/ د. ماهر الطباع