توصّلت الفصائل الفلسطينية وإسرائيل بوساطة مصرية إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، فجر يوم أمس الإثنين، يلتزم الاحتلال في ضوئه بتنفيذ التفاهمات السابقة المتعلقة بتوسيع مساحة الصيد، واستكمال تحسين الكهرباء والوقود، ودخول البضائع وخروجها.
كانت الجولة أكثر من تصعيد وأقل من حرب، وهي الأعنف منذ حرب 2014، لأن كل الأطراف حريصة على ألا تنجرف الأمور إلى حرب. فإسرائيل تريد أن تحيي ذكرى قيامها، وتمضي في مسابقة الأغنية الأوروبية (يورفيجين)، لذلك لم تقدم على اغتيالات لقادة من الصف الأول. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين فهم لا يريدون الحرب، بدليل عدم توسيع دائرة القصف، لا سيما في ظل اختلال موازين القوى لصالح الاحتلال، فضلًا عن عدم توفر الظرف المناسب لخوض الحرب، محليًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا، ما يجعل أي حرب مدمرة بلا نتائج سياسية تناسب تضحياتها.
شهدت هذه الجولة استشهاد 32 فلسطينيًا، وجرح أكثر من 170، وتدمير 130 وحدة سكنية تدميرًا كليًا. في المقابل، أطلقت فصائل المقاومة نحو 700 صاروح وقذيفة تجاه المستوطنات والمناطق الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة، خلّفت 4 قتلى إسرائيليين وأكثر من 140 جريحًا، إضافة إلى تعطيل حياة مئات الآلاف من الإسرائيليين الذين نزلوا إلى الملاجئ، وتدمير 11 مبنى وجيب عسكري وسيارة خاصة ومحطة وقود ومصنع، وفق ما كشفت عنه المصادر الإسرائيلية.
بادرت قوات الاحتلال إلى التصعيد من خلال إيقاع عدد من الشهداء وعشرات الإصابات من المشاركين في مسيرة العودة، يوم الجمعة الماضية، واستهداف مقاومين في مواقعهم البعيدة عن خط التماس. ويمكن تفسير هذا التصعيد بأسباب عدّة:
أولًا: أن رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد، أفيف كوخافي، المعروف عنه إيمانه بالقوة والردع أكثر من سابقه، يريد أن يجرب حظه، ويثبت أنه أفضل من سابقيه.
ثانيًا: ترميم صورة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، إذ أظهرته جولات التصعيد السابقة متهاونًا مع حركة حماس، ولكي يظهر في فترة المشاورات لتشكيل الحكومة الجديدة بصورة الرجل القوي والمتطرف ضد الفلسطينيين، والحريص على استعادة قوة الردع الإسرائيلية، خصوصًا أن أبرز المرشحين لتولي وزارة الحرب أفيغدور ليبرمان، الذي استقال عشية الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة من هذا المنصب احتجاجًا على السياسة الإسرائيلية إزاء قطاع غزة، وهو يريد سياسة أكثر تشددًا وأكثر استخدامًا للقوة العسكرية.
ثالثًا: ترسيخ معادلة "هدوء مقابل هدوء" والتنصل من الاتفاقات السابقة.
أما بالنسبة إلى الفصائل الفلسطينية، فكانت معنية بالرد بقوة هذه المرة، لأنها شعرت بخديعة الحكومة الإسرائيلية لها، عندما رأتها تماطل في تنفيذ التفاهمات التي تم التوصل إليها قبل الانتخابات الإسرائيلية، وأصبحت مضطرة للرد على التصعيد الإسرائيلي وإرسال رسالة مفادها أنّ "معادلة هدوء مقابل هدوء" من دون رفع الحصار، أو تحسين جدي لشروطه على الأقل، لا يمكن أن تُقبل بأيّ حال من الأحوال، لأن الوضع في القطاع لا يحتمل، والانفجار قادم، وأن يكون في وجه الاحتلال والحصار أفضل من أن يكون داخليًا.
هناك احتمال جدي يجب أن يدرس باهتمام بالغ، وهو أن يكون التصعيد الأخير "بروفة" للعدوان القادم، الذي قد يكون محتملًا في ضوء إعلان نتنياهو "أن المعركة لم تنته بعد، وأنه يتم التأهب والاستعداد للمتابعة".
ويعزز من هذا الاحتمال ما تسرب من معلومات عن "صفقة ترامب"، إذ تشير المعلومات إلى أن "الصفقة" (أو الإطار العملي الواقعي كما قال جاريد كوشنر) تتضمن خطة مفصلة من 52 صفحة، تشمل أمن إسرائيل من النهر إلى البحر، وسوقًا اقتصادية واحدة، واقتطاع 15-20% من أراضي الضفة تضم المستوطنات الكبيرة والصغيرة والمناطق المحاذية لها، على أن تكون الأغوار تحت السيطرة الفلسطينية، ولكنها ستبقى تحت السيادة والسيطرة الأمنية الإسرائيلية، وسيعاد رسم خارطة القدس للخلاص من 100 ألف مقدسي للحفاظ على الأغلبية اليهودية، ولكي تتصل بالأغوار بحيث يخصم منها ويضاف إليها حتى يتحقق هذا التواصل.
كما تتضمن "الصفقة/المؤامرة" توحيد الفلسطينيين في مناطق الحكم الذاتي في معازل الضفة وقطاع غزة، أي إحداث تغيير عليها بحيث يتم تعميم نموذج السلطة في الضفة الغربية المحكوم بالتبعية والتنسيق الأمني على قطاع غزة، وبذلك لا تتواصل سياسة الفصل بين الضفة والقطاع، وإنما إيجاد نوع من الربط، في ضوء إصرار الأردن على رفض أي علاقة بينه وبين معازل الضفة الآهلة بالسكان التي ستسمى زورًا وبهتانًا "كونفدرالية"، وما هي كذلك؛ لأن الكونفدرالية تقام بين الدول وليس بين دولة ومعازل تسيطر عليها إسرائيل، وفي ضوء رفض مصر رمي قطاع غزة في حضنها، أو توسيعه على حساب سيناء.
وفي هذا السياق، يجري العمل على جمع 10 مليار دولار لإنفاقها على تمويل الخطة، التي هي سلام اقتصادي، تحافظ على سيادة إسرائيل ولا تبقي أي سيادة لأي طرف آخر، وليس من المضمون جمعها، وسيكون المستفيد الأكبر منها إسرائيل.
إذا تأكدت الأخبار الجديدة عن "الصفقة/المؤامرة" فإن هذا يعني إمكانية استجابة إسرائيل لهذا التغيير إزاء قطاع غزة وعلاقته بالسلطة الفلسطينية، إذ اتبعت إسرائيل سياسة في السنوات السابقة تقوم على فصل الضفة عن القطاع، ومحاولة إقامة كيان منفصل في القطاع، يمكن أن يرتبط أو لا يرتبط بمعازل الضفة، كما سعت إلى فرض معادلة هدوء مقابل هدوء مع بعض التسهيلات الإنسانية.
وقد تعبّر السياسة الجديدة عن نفسها إذا اعتمدتها إسرائيل، من خلال توجيه ضربة عسكرية جدية للفصائل الفلسطينية، وتحديدًا "حماس" القوة التي تحكم القطاع، لأنه لا يستقيم السعي لتصفية القضية الفلسطينية مع استمرار وجود كيانٍ معادٍ لديه مقاومةٌ مسلحةٌ تمتلك صواريخَ يمكن أن تصل إلى تل أبيب وما بعدها.
حتى قبل التغيير الذي يجري الحديث عنه في الخطة الأميركية، لم أكن مقتنعًا بأن إسرائيل ستقبل ببساطة تعميم نموذج لبنان وحزب الله في قطاع غزة، لأن الظروف في لبنان وعمقه الجغرافي والإستراتيجي مختلف جدًا عن قطاع غزة، ولأن في لبنان نوعًا من التوافق سمح بوجود دولة وسلاح المقاومة في نفس الوقت، وفي ظل وجود رئيس وبرلمان وحكومة تضم مختلف الأطراف.
على الفصائل الفلسطينية عمل كل ما يلزم لئلا تنجر للحرب، مع الاستعداد لخوضها إذا فرضت عليها، مع العلم بأن إسرائيل ستفكر مرات عدة قبل المجازفة بعدوان كبير نظرًا للثمن الباهظ الذي ستدفعه.
بقلم/ هاني المصري