العثور على الذات ... اغتيال الدونية (2)

بقلم: عدنان الصباح

يعاني العرب تاريخيا وباعتراف غريب من الجميع من الالتصاق بالماضي بكل اشكاله حد التغني به بكل مناسبة فلا يفوت العربي اية فرصة للقول بماضيه العظيم وينسب لنفسه كل البطولات والانجازات ولا يترك شاردة ولا واردة من الانجازات الانسانية إلا وينسبها لنفسه عبر اثبات علاقة ما بها عبر التاريخ فنحن اي العرب اصحاب اختراع الطيران نسبة الى عباس بن فرناس وهو اندلسي من اصل أمازيغي لا يمت للعرب بصلة وأعظم الفلكيين هو العالم المسلم الخوارزمي ويكفي ان نعرف انه ينتمي باسمه الى خوارزم لندرك جيدا ان لا علاقة لآسيا الوسطى بالعرب والعروبة وابن سينا من بخارى وعمر الخيام الشاعر وعالم الرياضيات فارسي وكذا ابن المقفع فارسي ولد مجوسيا وأسلم والفارابي من تركستان وابن رشد من قرطبة وحتى نصل الى بطولات صلاح الدين الأيوبي القريبة منا والمعروف بكرديته للقاصي والداني وبالتالي فنحن نعرف جيدا ان اولئك الذين نتغنى بأسمائهم وتراثهم وانجازاتهم لا ينتمون لنا قوميا وان الدين الذي يوحدنا لا يوحد قوميات البشر بل ايمانهم ونحن نذكر هؤلاء لا كمسلمين بل كعرب بلا اي امانة علمية او احترام لقوميات هؤلاء العلماء ومن يحاول التدقيق يرى الفرق الهائل بين قوميات المسلمين غير العرب والعرب فبلدان مثل تركيا وماليزيا وإيران هي دول مسلمة حضارية ومتطورة تحظى باحترام الجميع بلا استثناء بعكس دول المسلمين العرب الذين تستخدم اسمائهم ودولهم للتندر وتلصق بهم كل الصفات الدونية وكذا يفعلون بأنفسهم وقد سبق وناقشت هذا الامر مرارا عن حجم الشتائم التي يكيلونها العرب لأنفسهم بالسر والعلن وحين يصبح التبجح ضرورة نسرق انجازات غيرنا وننسبها لأنفسنا بكل وقاحة فلو ان ابن سينا وغيره كانوا عربا لما كان حالنا على ما نحن عليه ولكنا راكمنا انجازات علماءنا وفلاسفتنا ومبدعينا ولم نكن لنحرق كتبا ونمنع علماء وفلاسفة من القول والتفكير والنقد

ألما ورائية اذن مرض عربي مستشري بلا حدود فالعرب يفاخرون الناس وأنفسهم بماضيهم وهم دون غيرهم من الأمم لاعنين للحاضر مرعوبين من المستقبل وراهنين أنفسهم بماضي لا احد يريد له أن يعود بما فيهم هم أنفسهم فلن تجد عربي واحد يقبل بالعودة لزمن السيف والرمح والخيل والإبل وبيوت القش والطهي على النار وان يتنازل عن الكهرباء والتلفاز وجهاز الهاتف النقال والتكييف والانترنت ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة رغم انه لاعن لها ويتبرم منها علنا وما أن يخلو إلى نفسه حتى يسعى إليها بكل ما أوتي من رغبة وتفاعل وكذا يفعل لقضاء أشغاله وتحقيق الأرباح فيستخدم الانترنت لطلب بضاعته ومتابعتها وتحويل المبالغ المطلوبة ومتابعة أعمال التخليص وكذا يفعل طالب الجامعة بتسجيل مواده الجامعية على رأس كل فصل ومتابعة تعليمات الجامعة ومدرس المادة والحصول على ما يحتاج من مراجع ومصادر لعمل أبحاثه أو دراسة المواد للازمة لتخصصه وفي معظم الأحيان لسرقة المواد وتقديمها على أنها من جهده ليحصل على العلامة التي يريد ويجتاز المادة بدون وجه حق.

الحركات الجهادية الإسلامية كالقاعدة وداعش وغيرها جميعا تلعن علنا كل بدعة غربية كالتلفاز مثلا وغيره إلا أنها تستخدم كل هذه البدع لتحقيق غاياتها فكل أعمال الكفار بدع وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار إلا سلاح الغربيين فمسموح استخدامه في الحرب على أعداء الداخل من الأهل الذين يختلفون معهم ومسموح استخدام الانترنت وأجهزة الاتصال لتحقيق الغايات وتجنيد العناصر وتنفيذ المهام ونحن عادة ما نلعن الغرب ونكفرهم ونرفض نمط حياتهم مع اننا حقيقة نلحق بهم بصمت وبدون اي شعور بالذنب ابدا فنلعن لباسهم ونلبسه ونلعن طعامهم ونأكله ونلعن اختراعاتهم ولا نستخدم سواها لان لا بديل لها وأخطر ما في الأمر اننا نصر دائما على تقزيم من هم غيرنا وتصغيرهم والتقليل من اهمية ما يفعلون ونكتب على صفحات الانترنت كلاما سخيفا عن دونية الغرب وكفرهم مع علمنا ان الاداة التي نستخدمها لإيصال رأينا هي اداتهم وان الولايات المتحدة الامريكية الدولة قاطعة الطريق الاولى والقاتل المأجور الاول والدولة الجريمة بكاملها هي من تمسك بنبع الانترنت وان بإمكانها بكبسة زر واحدة ان توقف اعمال الارض جميعها والتي باتت مرتبطة بمنجزات الثورة الرقمية في العالم والانترنت بات اهم هذه الانجازات فالعالم كل العالم اليوم يستخدم الحاسوب والانترنت في جميع الاعمال والجميع يعرف ان امريكا استخدمت الحرب الالكترونية ضد مفاعل ايران النووي.

لقد نقل الامويين الحكم الى بلاد الشام وخرجوا من بلادهم ليفرضوا حكمهم الوراثي الذي حمل اسم الاسلام لفظا ولا زال الجميع اليوم يقبلون بإمامة الامويين وإمامة العباسيين رغم علم الجميع ان التوريث لا علاقة له بالدين الاسلامي لا من قريب ولا من بعيد كما ان علاقة العربي بالمكان انتفت منذ خروج الامويين من الجزيرة الى بلاد الشام فهم اي حكام الامة لم يكونوا ينتمون الى المكان بل جاءوا اليه من الخارج ولذلك علاقة في مراكمة الفعل والفكر فعمر الدولة الراشدية لم يستمر اكثر من ثلاثة عقود 632م الى 662م وقد تميزت فترة الحكم الراشدي بالفتوحات الخارجية مما جعل الدولة تتوسع كثيرا حتى اصبحت السيطرة على سائر المناطق امرا صعبا ومن جانب آخر فقد أخذ العرب معهم الى البلدان الجديدة دينهم بينما وجدوا انفسهم ملزمين بأخذ نمط حياة الاخرين وثقافتهم وهذا يعني ان الدولة الراشدية لم يكن بامكانها بهذا العمر القصير ان تؤسس لدولة عربية قوية ومتماسكة لقصر المدة والانشغال بالفتوحات والفجوة الحضارية بين الفاتح وأهالي البلدان المفتوحة الى ان انقل الحكم الاسلامي باسم العرب الى الامويين وهي الدولة التي لم يمتد حكمها لأكثر من تسعة عقود من 662م الى 750م التي جاءت على شكل انشقاق والي الشام عن الحكم في جزيرة العرب وتنازل الامام الحسن او اجباره على التنازل عن الخلافة بعد حروب طاحنة وقعت بين طرفي الحكم في جزيرة العرب ولم يمض وقت طويل على حكم الامويين حتى انهار حكمهم واصيب بالضعف الشديد وانقسم حال الدولة الاسلامية بعد ان ضعف تاثيرها على الاقطار البعيدة كالعراق ومن المعروف ان الخلافات في الاصل نشأت على من هم احق بالحكم او بالخلافة فبعد ان هزمت احقية سلالة علي على يد الامويين جاء من يقول بأحقية سلالة العباس ولم تعش دولة الامويين زمنا كافيا لتؤسس لحضارة حقيقية يمكن لها ان تتواصل وتعيش لامد طويل فالفترة كانت قصيرة جدا 91 عام وكذا لم تعش هذه الفترة اي حال استقرار كما ان الحكام حكموا على ارض غير ارضهم وبثقافة غير ثقافتهم ونمط حياة غير نمط حياتهم كما ان دولة الامويين ظلت بعيدة كل البعد عن الاستقرار فقد واجهت ثورة الحسين بن علي ومعركة كربلاء الشهيرة ثم ثورة المختار بن عبيد الله الثقفي والتي ادت الى هزيمة الامويين وقيام دولة الكوفة ثم ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب وأكثر الثورات التي اشغلت الدولة الاموية وأكثرها اتساعا كانت ثورة الخوارج وعلينا ان ندرك جيدا ان حكما قام على السيطرة واستخدم فيه الدين لا للمساواة بين اتباعه بل لسيطرة قومية على غيرها مما جعل غير العرب او الموالي من سكان البلاد الاصليين غير راضين عن الحكم وجاهزين للاستجابة لكل حراك ثوري ضد حكم الغرباء والخلافات على الحكم والصراعات عليه ايضا كان لها تأثير خطير على عدم الاستقرار فالصراع بدء على قبر معاوية نفسه فقد اجبر معاوية الثاني بن يزيد على التنازل عن الحكم كما قتل الوليد بن يزيد وانقسم الامويين بعد ان قتل سليمان بن عبد الملك محمد الثقفي وقتيبة بن مسلم وهذه الحال انتقلت ايضا الى الدولة العباسية والتي مرت بمراحل مختلفة كان اهمها وأكثرها رخاء ما سمي بالعصر الذهبي 785 – 847 م وفيما عدا ذلك فقد تعرضت الدولة العباسية لكل صنوف الثورة والمعارضة الى ان انهارت كليا على يد التتار وكان عهد الفتن والحروب ومظاهر الانهيار قد استمر من847 – 1055م فقد استقل عبد الرحمن الداخل بالأندلس وأقيمت دولة الأدارسة في المغرب وأقيم حكم الأغالبة في ليبيا وتونس وشمال الجزائر والى جانب عدم وحدة الدولة فقد تغير مركز الحكم مرارا من بغداد الى القاهرة الى دمشق الى سامراء والى بغداد الى جانب عواصم الولايات المنفصلة او المدارة ذاتيا من قبل ولاتها بدون اعلان الانفصال كما ان المعتقد الفكري او المذهب الديني تغير مرارا من التقارب مع الشيعة في البدايات الى المعتزلة ابان حكم المأمون في حين انقلب المتوكل بالله على كل شيء الى ان تآمر عليه ابنه مع قادة الجيش الاتراك وقتل وتولى ابنه المنتصر الحكم فترة قصيرة فسرعان ما قضى عليه حلفاءه الاتراك بالسم وتطول سلسة الدول التي ظهرت ابان حكم العباسيين كالطوليين والسلاجقة بالمقابل حكم آل هانوفر بريطانيا بشكل متواصل من عام 1714 – 1901 ولا زالت الاسرة الحاكمة الحالية آل ويندسور في الحكم منذ عام 1910م حتى اليوم بينما حكم الكابيتيون فرنسا حوالي 900 عام متواصلة من 987 – 1792م بينما يعود تاريخ العائلة الامبراطورية الحاكمة في اليابان الى 2600 سنة ويعتبر الامبراطور الحالي هو الامبراطور رقم 126 وما قصدته هنا هو ان التواصل والاستمرارية يؤسسان لنمط حياة وثقافة ثابتة ويؤسسان لغد مبدع عبر مراكمة المعرفة والفعل والمعرفة وأدواتها الحقيقية بما يعني ان الانشغال بالتآمر والحروب والانقلابات حتى بالمعتقد لم تتح للعرب صناعة تأثير حقيقي على الارض فلا هم بقوا في ارضهم " الجزيرة العربية " ولا قبلتهم الشعوب والأمم الاخرى حتى وهي تدخل في الدين الاسلامي ففي كثير من الاحيان لم يكن هذا الدخول بسبب القناعة والدعوة بل بسبب الخوف من الحاكم الاجنبي وهذا يعني ان روح الانتماء والوحدة ظلت مفقودة بين الحاكمين والمحكومين وهو ما يعني اليوم بالعودة التعميمية للماضي وبدون تدقيق فيخلط العربي بين قوميته ودينه عند مصلحته بذلك ويجمل الاحداث ويخفي عيوبها محاولا عدم التطرق لها وينسب لنفسه ابداعات غيره دون ان ينتمي اليها.

ما جرى على الارض العربية او ما يسمى بأرض العرب حاليا كان قطع للعلاقة كليا مع الماضي والتنكر له والإعلان عن بدء صفحة جديدة اضرت دون ان تفيد في مستقبل امة جرى توحيدها بالقوة لا بالانتماء وعبر تغيير الحاكمين فقد شطبت كل انظمة الحكم الوطنية في بلاد الشام ونهر النيل والرافدين وألغيت حضارات تلك الامم كليا مما جعل الفراغ هو المسيطر عمليا وصارت الية الحضارة القائمة على مراكمة الانجازات لا وجود لها على ارض العرب عبر القطع القسري للجذور مع الماضي رغم عراقته وانجازاته.

ان قراءة سريعة لتاريخ اهم الدول العربية وهي مصر يبين حالة الانقطاع القسري مع الجذور مرارا فمصر التي حكمها الفراعنة حتى عام 31 ق.م حيث خضعت لحكم الامبراطورية الرومانية الغربية " روما " حتى سنة 476م عاش المصريون خلالها اسوأ اوضاعهم تحت حكم نيرون ودقيانوس فقد جرى اضطهادهم دينيا وإنسانيا بأبشع الصور وانقطعت علاقتهم بحضارتهم كليا وقد اعتبر اباطرة روما مصر مصدرا للغلال فنهبت البلد كليا ولم يستقر حالها حتى اعتنق الامبراطور قسطنطين المسيحية واعتبرها دين الامبراطورية عام 313 ميلادية وفي عام 476 ورثت بيزنطا روما وخضعت مصر لحكم الامبراطورية الرومانية الشرقية " بيزنطا " وفي تلك الفترة عانى المصريون من الصراع الديني مع الامبراطورية الحاكمة لاختلاف المذهب بينهم فبيزنطا آمنت بالمذهب الملكانية الذي يعتقد بطبيعتين للمسيح عليه السلام بنما يعتقد المصريين بالمذهب اليعقوبي الذي يراه بطبيعة الهية واحدة وقد تواصل حكم بيزنطا حتى سنة 641 ميلادية حيث دخلتها جيوش المسلمين وفرضت عليها سيطرتها السياسية ثم الدينية فيما بعد.

ان نموذج القطع القسري مع التاريخ وإلغاء الحضارات القديمة والتنكر لها مع الابقاء على حالة القبول بالماضي المختار " القريب " دون تحقق او تمحيص جعل من العربي نموذج لمن يعيش بلا قواعد وهو كالبيت بلا اساسات او اعمدة فلا هو قادر على العودة لتاريخه الخاص ولا هو قادر على الامساك بتاريخ عربي حقيقي ينتمي اليه فالحضارات والآثار الشاهدة على الحقيقة في بلاد الشام وما بين النهرين ووادي النيل لا علاقة لها بالعروبة لا من قريب ولا من بعيد إلا بالمحاولات الغبية لتعريب كل شيء وهذا يشبه السرقة او حكاية الطير الذي حاول تقليد مشية غيره فنسي مشيته ولم ينجح في التقليد وبالتالي فان نماذج الامم التي واصلت الانتماء لماضيها دون ان يؤثر تغير الفكر او الدين على الحقائق على الارض استطاعت النجاح في مراكمة الانجازات العملية والمعرفية وان تطور تلك الانجازات دون وجل او خوف بينما خسرت الامم التي احرقت جسورها مع تاريخها الحقيقي لتنتمي الى تاريخ غيرها مع ان الفارق الحضاري كان لصالح تاريخها الذي طلقته فهي لهذا لم تنجح في الابقاء على ذاتها حية وقادرة على التطور ولم تجد ما تنتمي اليها سوى حكايات ملفقة لا تغني ولا تسمن من جوع ولن يستطيع التشدق بخرافات الماضي والأوهام المزعومة ان تعطي ايا من الامم حقها في الحياة والقدرة على صناعة غدها كجزء من غد البشرية التي تواصل التقدم غير ملتفتة لأصوات الطبول الفارغة فالوهم والأمنيات لا يصنعان حضارات الامم.

بقلم/ عدنان الصباح