في الذكرى الـ 71 للنكبة .. ما المشروع الوطني؟

بقلم: هاني المصري

لعلّ من أهم المواضيع التي تستحق الحوار حولها، ونحن نمرّ في الذكرى الـحادية والسبعين للنكبة، ما المشروع الوطني، لأنّ حالةَ التيه التي يمرّ بها الوضع الفلسطيني تتطلب إعادة الاعتبار له، في ظل استمرار وتعمق الانقسام، وتعدد المشاريع الوطنية والإستراتيجيات المعتمدة، وعدم تحقيق الأهداف التي وضعتها الحركة الوطنية، بل على العكس من ذلك لقد تغوّل المشروع الصهيوني وتوسّع، وأصبح أكثر تطرفًا، حيث يوجد أكثر من 800 ألف مستعمر استيطاني في الضفة الغربية، وسط استعدادات لضم أجزاء من الأراضي المصنفة (ج)، على طريق ضمها لإسرائيل بعد أن أفرِغت تقريبًا من سكانها الأصليين. 

تكتسب مناقشة المشروع الوطني أهمية في ظل الخطة الأميركية التي تسمّى "صفقة القرن" والرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، وأصبحت إعادة تعريف المشروع الوطني مسألةً ملحةً جدًا، نظرًا لأن الشعب لا يمكن أن يضع كل الخطط المناسبة إذا لم يعرف ما يريد تحقيقه، كونه تعرض لتغيير مستمر في أهدافه من العودة والتحرير الكامل، إلى السلطة الوطنية، ومن ثم العودة والدولة، ثم الاستعداد الفعلي لمقايضة الدولة بالعودة، وتقليص مساحة الدولة، من خلال الموافقة على مبدأ "تبادل الأراضي" الذي أعطى الشرعية للاستعمار الاستيطاني.

من المفترض أن يتضمن أي مشروع وطني الهدف أو الأهداف المنوي تحقيقها، حتى يتم وضع المراحل والإستراتيجيات لتحقيقها، بما يشمل الخطط والآليات وأشكال النضال. ويستند تحديد الأهداف في الأساس إلى الحقوق الفلسطينية الطبيعية والتاريخية والقانونية، ولا علاقة له أو لها في موازين القوى، التي لها علاقة بتحقيق  أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، من أجل الانتقال إلى تحديد مهمات المرحلة التالية، وهكذا حتى نصل إلى تحقيق الأهداف النهائية.

إن الاعتراف بالواقع والتعامل معه بأفق تغييره أمر في منتهى الأهمية، إذ لا ينفع اللجوء إلى تبرير الأخطاء الجسيمة المرتكبة لتزيين الخضوع للواقع، ولا الاكتفاء بالتبشير بالمستقبل هروبًا من الواقع، فهذا وذاك يساعدان العدو على تحقيق أهدافه بوقت أقصر وتكاليف أقل.

 استند المشروع الوطني عند انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة إلى الحق الفلسطيني، ورفع شعاري العودة والتحرير عبر استخدام الكفاح المسلح لدحر وهزيمة المشروع الاستعماري، ثم جرى تطويره من خلال طرح الدولة الديمقراطية في كل فلسطين التي يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود على قدم المساواة، ثم وُضع المشروع الوطني في بورصة التغيير والهبوط به من خلال ربطه بموازين القوى وأوهام إمكانية تحقيق دولة فلسطينية على أراضي 67.

كان يمكن تبني البرنامج المرحلي، برنامج حق تقرير المصير والعودة والاستقلال الوطني على أراضي 67، من دون التخلي عن الحقوق الطبيعية والتاريخية، وعن الهدف النهائي المتمثل في إقامة دولة ديمقراطية واحدة بعد هزيمة وتفكيك المشروع الاستعماري ونظام التمييز العنصري الذي استند إليه، وبما يشمل حل المسألة اليهودية ضمن فهم أن الصراع ليس بين اليهود والمسلمين والمسيحيين، وإنما بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وقوى التحرر والتقدم في العالم، وبين مشروع استعماري يستهدف الجميع ومن ضحاياه اليهود.

في هذا السياق، ومع إدراكنا أن المشروع الصهيوني لم يستكمل تحقيق أهدافه ويعاني من مأزق جراء تواجد نصف الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، نضع إقرار عدد كبير من القوانين العنصرية التي بلغت ذروتها بإقرار قانون يهودية إسرائيل العنصري كقانون دستوري، وإعادة انتشار القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، وبذر بذور الانقسام، والحرص على إدامته، والتوسع الاستيطاني الرهيب، وما يمكن تسميته بالضم الزاحف للأرض الذي يسبق ويمهد للضم القانوني.

يضاف إلى ذلك الأفكار والخطط الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين، إذ إن أكثر من نصف اليهود في إسرائيل يؤيدون طرد الفلسطينيين حتى الذين حصلوا على الجنسية الإسرائيلية، والأكثرية الساحقة منهم تؤيد التهجير والضم الكلي للضفة أو ضم معظمها، إلى حين تتوفر الفرصة المناسبة لتهجير من تبقى إلى الأردن وسيناء وبقية أراضي المعمورة، ومعظم من تبقى  من اليهود الإسرائيليين يؤيد الانفصال عن الفلسطينيين من دون منحهم حقوقهم، وإذا فشلت الحركة الصهيونية بتطبيق مقولتها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" حتى الآن، فهذا لا يعني أنها سلّمت بالأمر، وإنما حاولت وستحاول مجددًا، وهي أعطت الأولوية للاستيلاء على الأرض، وحققت هذا الأمر إلى حد كبير، كما يظهر في أن 82% من أرض فلسطين التاريخية يملكها الآن يهود، أو أراضي دولة تسيطر عليها إسرائيل، ما يجعل لحظة تنفيذ مخططات الطرد القسري والجماعي تقترب وتنتظر الوقت المناسب.

المهم نحن الآن أمام وضع لا يوجد فيه حل وطني على الأبواب، ولا على المدى المنظور، وإنما أمام كارثة محدقة تريد إسدال فصل الختام على المأساة الفلسطينية. وبعبارات أوضح، لا توجد دولة فلسطينية على مرمى حجر، وإنما المطروح حكم ذاتي، أي ما هو قائم الآن. كما لا توجد إمكانية لتحقيق دولة واحدة، لأن إسرائيل تريد ضم الأرض بلا شعب، أو بأقل عدد ممكن من السكان.

إنّ الأولوية لإِعادة الاعتبار للمشروع الوطني وإنهاء الانقسام والعمل على إحباط "خطة ترامب"، والمشاريع الاستعمارية الاستيطانية، خصوصًا في القدس والضفة ورفع الحصار عن قطاع غزة، وإبقاء القضية الفلسطينية حية، إضافة إلى توفير كل ما يلزم لضمان استمرار التواجد الشعبي الفلسطيني على أرض فلسطين، من خلال توفير مقومات صموده ووجوده واستمراره، وتوفير احتياجاته بالعيش حرًا وبحياة كريمة، وضمان حقوقه المدنية أينما تواجد داخل فلسطين وخارجها، فلا تعارض بين الحفاظ على هويته الوطنية وحقوقة المدنية، خصوصًا إذا كان مواطنًا، والحؤول دون شن عدوان تدميري جديد على قطاع غزة، وإبقاء العامل الفلسطيني فاعلًا حتى لا يمكن تجاوزه من خلال حل عربي إقليمي.

في هذا السياق، ومن دون تأجيل عمل كل ما يمكن عمله فورًا، ومن دون ربطه بأي شيء، هناك أهمية كبرى لإعادة بناء مؤسسات المنظمة، لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي على أسس وطنية وشراكة حقيقية وديمقراطية توافقية، وبلورة رؤية شاملة تستند إلى وحدة القضية والأرض والشعب، وتحرص على الحفاظ على الرواية التاريخية الفلسطينية وتقديمها بأحسن صورة، تتناسب مع عدالة وتفوق القضية الفلسطينية الأخلاقي، إلى جانب بلورة إستراتيجية موحدة قادرة على منع الكارثة المحدقة. 

إن الشعب الفلسطيني الصامد على أرض وطنه، والمقاوم منذ أكثر من مائة عام، والذي يحمل قضيته في أماكن اللجوء والشتات؛ قادر على إحباط "صفقة ترامب" مهما بلغ الاختلال في موازين القوى، فلا يمكن عمل "صفقة" من دون الطرف الآخر، ولا إقامة عرس بلا عريس، والحقائق التي تُفرض بالقوة لا تنشِئ حقًا ولا يترتب عليها أي التزام، ولا تنهي الصراع إذا لم تمنح الضحيةُ الشرعيةَ للجاني. 

وأخيرًا، إن طرح البرنامج المرحلي أو البرنامج النهائي من عدمه، أو إلى أي مدى نركز على هذا أو ذاك، يجب أن يخضع لتقييم شامل، من ضمنه حسابات الربح والخسارة. فإذا كان التخلي عن برنامج الدولة مفيدًا ويساعد على التقدم إلى الأمام نقوم به، وإن كان العكس لا نقوم به.

أظن بشدة أن إعلان التخلي عن هدف الاستقلال الوطني وتجسيد الدولة على أراضي 67 في وقت تتعرض الضفة لأخطر مشروع يهدف إلى ضمها، يعتبر أفضل هدية يمكن أن نقدمها لإسرائيل، لأنها ستُحَمِّل الفلسطينيين المسؤولية عن جريمتها بقتل خيار الدولة الفلسطينية الذي لم توافق إسرائيل يومًا عليه كما توهّم البعض سابقًا.

كما أن التخلي عنه يعني التخلي عن اعتراف 140 دولة بدولة فلسطين، والمميزات السياسية والقانونية المترتبة على ذلك، وعن الشرعية الدولية التي رغم كل ما يقال عنها وعن ضعفها بحق، إلا أنها تتضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، بدليل أن ترامب وإدارته يحرصان على القضاء على ما يسموه الانحياز الدولي للفلسطينيين. والأخطر أن التخلي عن خيار الدولة سيمكّن إسرائيل من استكمال تهويد الضفة واستيطانها بسرعة أكبر وتكاليف أقل، فالمعركة الأهم كانت على الأرض، وهي الآن على الضفة، ولا يجب الهرب من خوضها تحت أي ذريعة.

هناك إمكانية للجمع بين البرامج المرحلية والنهائية، بين الدولة والدولة الواحدة، بين النضال الوطني والديمقراطي، بين الوطني والقومي والأممي، دون تجاهل الأهمية الحاسمة للبعد الوطني، شرط أن يكون واضحًا أنّ أيّ هدف وطني لا يمكن التوصل إليه في ظل موازين القوى الحالية وحتى إشعار آخر عبر التفاوض، وإنما من خلال النضال لتغيير موازين القوى بشكل متراكم، وذلك ضمن فهم أن ميزان القوى اللازم لتجسيد الدولة على حدود 67، أقل من ميزان القوى اللازم لهزيمة المشروع الاستعماري على كل فلسطين، فمصير أكثر من 800 ألف مستعمر استيطاني أهون من وضع مصير المشروع الاستعماري كله على كف عفريت.

لنتعلم من الحركة الصهيونية التي وضعت هدفها بإقامة إسرائيل في مؤتمر بازل في العام 1897، ولكنها لم تركز على هذا الهدف، بل اكتفت بوضعه وركزت على كيفية الوصول إليه إلى أن حققته بعد خمسين عامًا كما خططت.

بقلم: هاني المصري