الكثير من الدول والمحللين والخبراء والمراقبين السياسيين والعسكريين رأوا في قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إرسال حاملة الطائرات «ابراهام لينكولن» ومعها سفن حربية، إلى مياه الخليج قبالة السواحل الإيرانية، بأنه استعراض للقوة الأميركية، يندرج في سياق زيادة الضغط على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بعد أن فشلت واشنطن في تصفير صادرات النفط الإيراني.. مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون قال بأنّ الهدف من إرسال حاملة الطائرات، «بعث رسالة واضحة وصريحة إلى إيران بأنّ أيّ اعتداء على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها سيقابل بقوة حازمة»..
لكن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أفصح عن الهدف الفعلي، وهو دفع إيران الى «تغّيير سلوكها»، والمقصود طبعاً، إنما هو تغيير سياسات إيران بما خصّ تطوير برنامجها الصاروخي الباليستي، والتخلي عن دعم المقاومة وسورية ضدّ الاحتلال الصهيوني وما يؤدّي إليه من إحباط فرض صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية…
ومع ذلك تدرك واشنطن جيداً، قبل غيرها، أنّ القيادة الإيرانية ليست من النوع الذي ترهبه القوة الأميركية، ولا استعراض هذه القوة ودفع الوضع في الخليج إلى حافة الحرب، والتجربة، على مدى أربعين عاماً، أثبتت هذا الأمر، وأنها زادت إيران صلابة، وقوة على الصعد كافة..
وعلى العكس مما تعتقد إدارة ترامب، فإنّ حشد المزيد من سفن الأسطول الأميركي في مياه الخليج، إنما يشكل عامل قوة إضافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، يزيد من صلابة موقفها، وتمسكها بسياساتها الاستقلالية الرافضة للهيمنة الاستعمارية الأميركية، والمتمسكة بثوابت الثورة الإسلامية، ذلك أنّ هذه السفن وحاملة الطائرات، إلى جانب القواعد الأميركية في المنطقة، هي في مرمى الصواريخ الإيرانية المتطورة، بكلّ أنواعها القصيرة والمتوسطة والبعيدة، وانّ أيّ عدوان أميركي على إيران، سوف يجعلها فريسة سهلة لهذه الصواريخ، وزوارق الحرس الثوري السريعة المسيّرة والمجهّزة بالمتفجرات، من اللحظات الأولى للحرب.. في هذا السياق يمكن تفسير كلام قائد حرس الثورة الإسلامية حسين سلامي، من أنّ واشنطن عاجزة عن شنّ الحرب، بسبب قوة إيران، وانّ إرسال حاملة الطائرات الأميركية مجرد حرب نفسية ومحاولة لإخافة الناس، وانّ الوجود العسكري الأميركي في الخليج كان في السابق يشكل تهديداً خطيراً، أما اليوم فإنه أصبح فرصة.. أيّ أنّ هذا الوجود العسكري الأميركي بات تحت تهديد الصواريخ الإيرانية، فكيف بالتالي يكون قادراً على تهديد إيران، أو زيادة الضغط على قيادتها وإرهابها، ودفعها الى الرضوخ لمطالب ترامب بالعودة إلى طاولة المفاوضات وتقديم التنازلات له مقابل تخفيف الحصار الاقتصادي الأميركي..
هذا من الناحية العسكرية، أما من الناحية الاقتصادية، من المعروف أنّ ترامب يسعى إلى ابتزاز المزيد من الأموال من دول النفط، إلى جانب السعي إلى استعادة هيبة وسطوة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وهذا يعني أنّ ذهاب ترامب إلى أبعد من استعراض القوة، أيّ شنّ الحرب على إيران، إنْ هي رفضت شروط العودة إلى طاولة المفاوضات، سوف يؤدّي، ليس فقط إلى اشتعال الحرب في المنطقة وتعريض المصالح والوجود العسكري الأميركي للخطر، بل وأيضاً سيقود إلى إقفال مضيق هرمز في وجه ناقلات النفط، وبالتالي اشتعال أسعار النفط على نحو لم يسبق له مثيل من قبل، حيث يتوقع أن يرتفع سعر برميل النفط الى مئات الدولارات، ما يلحق أفدح الأضرار باقتصاديات الدول لا سيما الولايات المتحدة والدول الغربية، التي تعاني اقتصادياتها من تراجع كبير في معدلات النمو وتراجع في القدرة الشرائية.. هذا إلى جانب أنّ الحرب على إيران ليست مضمونة النتائج في تحقيق أهدافها، لا في تدمير البرنامج النووي الإيراني، ولا في إخضاع إيران، ولا حماية أمن «إسرائيل»، التي ستتعرّض للقصف بالصواريخ من كلّ أطراف محور المقاومة، ومعها القواعد الأميركية في الدول الخليجية، والعراق، فيما توقف إمدادات النفط عبر هرمز سوف يصيب اقتصاديات دول الخليج بأزمات عنيفة، لا سيما السعودية والإمارات، اللتين تئنّان أصلاً من الكلفة الباهظة للحرب على اليمن، والإنفاق على الحروب الإرهابية في الدول العربية.. وطبعاً فإنّ ذلك لن يكون في مصلحة ترامب لأنه لن يكون بمقدوره الحصول من هذه الدول على الأموال التي يحتاج إليها…
من هنا فإنه من المرجح أن تكون غاية ترامب من زيادة منسوب هذا الحشد العسكري الأميركي في مياه الخليج، تحقيق جملة أهداف، أهمّها:
أولاً، استعراض للقوة الأميركية لإثارة الغبار والتغطية على حقيقة فشل تصفير صادرات النفط الإيراني، نتيجة استمرار العديد من الدول في شراء هذا النفط من إيران ورفض العقوبات الأميركية، وفي مقدّمة هذه الدول الصين وروسيا..
ثانياً، محاولة إرهاب إيران والتأثير على الشعب الإيراني الداعم لموقف قيادته في رفض الإملاءات الأميركية وتقديم التنازلات للولايات المتحدة..
ثالثاً، رفع منسوب التوتر في منطقة الخليج والقول لدول المنطقة والعالم بأنّ إيران تشكل خطراً عليها، للزعم بأنّ القوة الأميركية في الخليج إنما هي لحماية هذه الدول ومصالحها مما تسمّيه الخطر الإيراني، وعليه يجب أن تدفع لواشنطن ثمن هذه الحماية التي توفرها القوات الأميركية في الخليج، عبر تمويل نفقاتها، وشراء الأسلحة الأميركية..
رابعاً، تحقيق أهداف الحكومة الإسرائيلية في العمل الحثيث لتحويل الصراع في المنطقة، من صراع عربي إسلامي ضدّ الكيان الصهيوني المحتلّ لفلسطين والأراضي العربية في لبنان والجولان السوري، إلى صراع عربي إسرائيلي في مواجهة إيران، وبالتالي كسب المزيد من تأييد اللوبي الصهيوني الأميركي النافذ في الولايات المتحدة إلى جانب ترامب واستطراداً تقديم الدعم القوي له في حملته الانتخابية المقبلة للفوز بولاية رئاسية ثانية..
غير أنّ ما تقدّم لن يغيّر من حقيقة أنّ الولايات المتحدة، على الرغم مما تملكه من قوة عسكرية متطوّرة، إلا أنها باتت تعاني من تفاقم عجزها نتيجة تنامي قوة إيران، ومحور المقاومة، والدول الرافضة للهيمنة الأميركية التي تسعى إلى وضع نهاية لها، وبناء نظام دولي يقوم على التعدّدية الدولية والإقليمية، واحترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي..
خلاصة الأمر.. انّ الولايات المتحدة تستطيع أن تشنّ الحرب لكنها لن تستطيع كسبها والخروج منها منتصرة، بل من المرجح أن تؤدّي إلى تسريع انهيار الإمبراطورية الأميركية التي تعاني من التصدي والتراجع.. كما أنها تستطيع حشد أساطيلها الحربية واستعراض قوّتها، لكنها عندما تفشل، وتظهر بأنها غير قادرة على إرهاب إيران أو إخضاعها، فإنّ هذا الاستعراض سيرتدّ عليها بالمزيد من إضعاف هيبة وسطوة أميركا.. وتأكيد حقيقة أنّ الإمبراطورية الأميركية دخلت في مرحلة الشيخوخة، وأنها تعاني من أعراض عدم القدرة على فرض سلطانها، والعجز عن تحمّل كلفة شنّ الحرب…
كاتب وإعلامي
كتاب بناء 2019-05-13