في اللهجة العامية الفلسطينية الهبد هو تعبير مجازي عن الهجوم الضارب، ولأن المجتمعات دائمة التطور في طبيعتها وسريعة التأقلم وتصحح من خطواتها باستمرار في اتجاه سعيها نحو مصالحها، ابتكر الشباب الفلسطيني عدة وسائل تساعدهم على تفريغ الضغط والتغلب على الكبت والقهر الذي ملئ قلوبهم بسبب حقبة من العجز وجدوا انفسهم في داخلها دون أي ذنب سوى القدر، فشبابنا في قطاع غزة بشكل خاص شبوا على واقع مؤلم من الانقسام لا يمارس فيه الشباب حقهم بالمشاركة السياسية، ولا يجدون فيه حقهم من تكافئ الفرص في ايجاد عمل، وواقع اقتصادي معدم بسبب الاحتلال والانقلاب الذي ادى الى انفصال غزة عن عمقها الجغرافي والاقتصادي والسياسي في الضفة الغربية.
بدأ الشباب في الاحتجاج على واقعهم المأساوي على صفحات التواصل الاجتماعي حتى قرروا الانتفاض في الشوارع تحت شعار "بدنا نعيش"، فواجهتهم حركة حماس بقمع شديد لم يخلو من أي شكل من اشكال العنف والتعذيب والحبس والتنكيل والاذلال، خوفا من ان يتزعزع حكمها لغزة رغم قزميته ومحدودية صلاحياته، مما راكم حجم القهر والاحباط لدى الشباب من كونهم عاجزين عن تبوئهم لمكانهم الطبيعي في المجتمع كمحرك وموجه اساسي لتطوره وتقدمه في اتجاه تحقيق اهدافه.
الاستكانة والرضوخ للواقع المُزري وعدم المطالبة بالحقوق المسلوبة، ليس من سمات البشر وليس من شيم الرجال، ومخالف لسنن الحياة، وكلما ازداد الضغط والقهر كلما تولد التحدي والابداع. قطاع غزة تم تصميمه منذ قيام دولة الاحتلال على ان يكون القفص الذي تضع فيه عصفور لا حول ولا قوة له، فقط يعيش بما يمن عليه من غذاء وماء، رغم ذلك ورغم كل جبروت الاحتلال، الا ان غزة وبسبب ظروفها القاهرة مثلت دوما منبع الثورات والانتفاضات الفلسطينية، تجنبا لهذا عمل الاحتلال على تصميم وترتيب الظروف التي أدت لإلقاء غزة في حضن الانقلاب الحمساوي ليفصلها عن قضاياها الوطنية المتعلقة في القدس ومواجهة الاستيطان والسعي من اجل الدولة الحرة المستقلة بعاصمتها القدس الشريف، ولتلتهي وتنشغل غزة بمشاكلها الخاصة من تمويل حكومتها القهرية الحمساوية ورواتب عناصرها، حتى مشاكل الكهرباء والغاز، وان يصبح اقصى همومها عمق الصيد لصيادي غزة. فكانت المفاجئة التي صعقت الجميع، كانت انطلاقة جيش الهبد الالكتروني الذي وُلِد من رحم القهر، وُلد من رحم القيود وتكميم الافواه، وُلد من رحم زنازين الأمن الداخلي لحماس، وُلد من رحم قيود الاحتلال التي حرمت شبابنا من حقهم في البحث عن عمل وتعليم وعلاج وسياحة وترفيه في مدنهم الفلسطينية واجبارهم على البقاء في معزل غزة، الذي يتعرض لكل اصناف التمييز العنصري.
لربما يرى البعض ان النشاط الالكتروني للشباب في مهاجمة صفحات الاحتلال على الفيس بوك وتويتر رغم كثافتها وقوتها ورغم ما ابلته من بلاء حسن في ايام العدوان الاسرائيلي الأخيرة على غزة، وفي تعكير صفو استضافة اسرائيل لحفل اليوروفيجن الذي يعد بمثابة انجاز سياسي غير مسبوق لإسرائيل تحاول فيه ان تثبت للعالم بانها دولة طبيعية في المنطقة، بل ونجح جيش الهبد الالكتروني بتحويل الاحتفال لمنصة يبين من خلالها حجم الظلم والتمييز العنصري الذي يمارسه الاحتلال تجاه الشعب الفلسطيني، ورغم ما يبليه اليوم من حسن البلاء في ذكرى النكبة، ورغم توسعها وانتشارها في الهبد في الكثير من الاماكن في الشرق والغرب ومن اجملها هبد منشورات رئيس البرازيل ونجله المؤيدة للاحتلال الاسرائيلي، بالإضافة لهبد ترامب، يرى البعض انها تبقى نشاطات في العالم الافتراضي ولن تحدث تأثير حقيقي على الأرض. هنا أود ان اشير لأهمية وابعاد الهبد الالكتروني الذي تميز فيه شبابنا.
في البداية التميز والابداع يكمن في القدرة على التوجيه فالمهندس المبدع أحمد ماهر جودة ورفاقه نجحوا في توجيه المئات بل الآلاف من الجمهور الفلسطيني وادارة نشاطهم بشكل فائق من التناغم والابداع، وبشكل راقي من الوعي الوطني والانساني الغير مسبوق من عامة الجمهور، والذي يلتزم بتوجيهات الخلية النخبة الطليعية من الشباب بدون أي وسائل ادارة تعتمد على المصلحة او الاكراه او الثواب والعقاب كما هي شروط أي ادارة فعالة. المحرك الرئيسي للجمهور هو الهدف المشترك، المصلحة الوطنية العامة المشتركة، والثقة في الشباب، حيث نالت تلك الخلية الطليعية من شبابنا ثقة الجمهور بفضل قيادتها الشجاعة لحراك "بدنا نعيش" وبفضل التضحيات التي قدموها من اجل اهلهم ومجتمعهم في زنازين الامن الداخلي لحماس، في ظل ظروف تمَلك فيها الرعب من قلوب الناس في مواجهة حكم حماس وممارساتها التي لا يرضى عنها احد غير ابناء حماس.
هناك الكثير الغير مدرك لأهمية صناعة الرأي العام وتوجيهه، ويظن ان استخدام القوة وفرض الوقائع على الأرض يبقى سيد الموقف، هو بالفعل كذلك ولكن الى حين من الزمن، فالمحرك الرئيسي للتاريخ هو الإرادة العامة للجمهور القائمة على الفِكر والتراث الثقافي، فإسرائيل تعمل بكل طاقتها وجهدها لفرض روايتها التاريخية والسياسية على الرأي العام العالمي، ليقبلها العالم كجسم طبيعي في العالم وفي المنطقة، هنا يأتي دور جيش الهبد الالكتروني ليشارك بشكل فعال في نسف الرواية الاسرائيلية ويساهم في اعادة توجيه وتذكير الرأي العام الدولي بان القضية الفلسطينية قضية تحرر وطني وعودة للاجئين، قضية شعب يعاني من اضطهاد الاحتلال وممارسات التمييز العنصري ضده في ظل عالم بات يرفض كل اشكال الاضطهاد والتمييز العنصري. اسرائيل اليوم تبحث عن التطبيع وسط العالم العربي ظناً منها بانها كسبت الرأي العام الدولي وجاء دور الرأي العام العربي ليتقبلها كجسم طبيعي وسطه، فيخرج لها جيش الهبد الالكتروني ليعيدها تقاتل في الجبهات التي ظنت انها انتصرت بها من خلال وسائل الكترونية بسيطة التناول، ظنت اسرائيل انها تحت سيطرتها وهي من اصحاب ابتكارها، ولكن كما قيل بان "التكنلوجيا لن تبقى حكراً لأحد" فشعبنا التقط فرصة التقدم التكنلوجي ليستخدمه سلاحا بشكل واعي ومسؤول لينتصر فيه لحقوقه المسلوبة. ومن يعتقد ان منصات التواصل الاجتماعي تأثيرها محدود ولا تصل الا لعدة آلاف من البشر فهو مخطئ، فقبل عدة عقود من الزمن عندما انتشرت القنوات الفضائية قالوا ان الدنيا اصبحت قرية صغيرة، ولكن اليوم مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي استطيع ان اقول بان الدنيا اصبحت منزل صغير تشعر فيه وكأن الرئيس الامريكي دونالد ترامب يعيش معك فيه، وتدق عليه باب "الحَمّام" وتقول له توقف عن التغريد على تويتر وقُم عن المرحاض.
بقلم/ رائد موسى