بابا ، صوت "شو ، إلى عم يدق مع صوت الاذان " ، الساعة الرابعة والنصف عصرا ، يوم الأحد وعلى غير العادة ، طلب يمان الذهاب برحلة إلى الجبل ، مما دفعني لأخذ اجازة ، وذلك تعويضا عن انشغالي عنه يوم الجمعة ، سمع يمان ابن الاربع سنوات دقات جرس كنيسة رقاد العذراء، متزامنا مع اذان العصر، ولربما هي المرة الأولى التي يسمع بها بوضح امتزاج هذا النداء الرباني للصلاة ، فتسائل عن هذا الصوت.
هذا يا أبني صوت دقات جرس الكنيسه مثل ما انت تذهب يوم الجمعة الى المسجد ، يذهب يوم الاحد اصدقاءك في الروضة إميل وأديب ونزيه للصلاة بالكنيسة، يمان مقاطعا "نزيه جده الخوري الذي وصله صباحا للمدرسة ، اه بعرفه "، فالماء الذي شربه المسيحي والمسلم من نبع العين الفوقا الاتيه من قمة الجبال المحيطة بالقرية ، والغسيل الذي غسله معا نساؤها على العين التحتا، ثمار رمانها الذي قطفوه ، أرضها التي فلحوها معا، لا فرق بين مسلم ومسيحي ولم نسأل يوما عن الديانة ، كنا نحضر قداس الاحد بالكنيسة ونأخذ القداس من الخوري .
عين عريك قرية صغيرة وادعة تبعد عن مدينة رام الله حوالي 7 كليومترات وتحيط بها قرى دير ابزيع وعين قينيا وبيت عور التحتا وبلدة بيتونيا وتشتهر القرية بمزروعاتها كأشجار الزيتون واللوز والجوز والعنب و لا ننسى رمانها الطيب بالاضافة الى كثرة عيون الماء العذب الموجودة بها ويعيش في القرية حوال 2000 نسمه من المسلمين والمسيحيين والمهاجرين الذين هجروا من قراهم اثر حرب عام 1948، فيها يتعانق الصليب و الهلال، و المسجد و الكنيسة، و صوت الاذان مع قرع اجراس الكنيسة، وصوت الشيخ الذي يصلي في مسجده مع صوت المطران الذي يصلي في كنيسته.
يطلق عليها وطن مصغر، هذا التعايش الذي مرت عليه السنوات لم يتغير ، ينتظر ابناء القرية سبت النور القادم من كنيسة القيامة وبابا نويل الذي يفرحهم بالهدايا، والبيض الملون، ليحتفلوا بالعيد، كما ينتظروا معا كعك عيد الفطر، واضحية عيد الاضحى،يعملن الكعك معا ويوزعهن معا .
فهذا المجلس القروي يتشكل من مسلمي ومسيحي ولاجيء القرية، وها هو مركز نسوي عين عريك ايضا يضم ذات الحجاب وغير المحجبة ، بينما تفتح مدرسة البطريركية اللاتينة ذراعيها لتضم بروضتها ومدرستها هذا التنوع ، الذي يزرع قيم المحبة والاخاء .
صوت مأذنة المسجد يعلن وفاة أبو الياس،بينما جرس الكنيسة يقرع دقات الحزن، في هذه الاثناء ، تبدأ العائلات الثلاث المسلمة شيلو وزيته وقرابصه، بتجهيز قاعة المسجد، وتتوزع الادوار بين شبابها فهذا يذهب لشراء اللحم ، واخرون يجهزون القهوة وقاعة المسجد، حيثما يصلى على ابو الياس في الكنيسة، ثم يتجمع أهل القرية على المقبرة لاخذ واجب العزاء، ينتظر الشباب اكمال مراسيم الدفن، وبعدها يتوجه اهالي الفقيد "المسيحي" ومن جاء من خارج القرية نحو قاعة المسجد لتناول الغداء، وعلى العكس عندما يتوفى مسلما تتأهب عائلات عواد، وأبو ديه وهيلانه ، لتجهيز قاعة الكنيسة ودعوة أهالي الفقيد والعائلات المسلمة لتناول الغداء.
وليد عواد تصادف عرسه مع بداية شهر رمضان، وحفاظا على التقاليد والعادات المتوارثة أبا عن جد، ولتكتمل فرحته بوجود اصدقائه ومحبيه، قرر أن يقدم غداء العرس اسبوعا ، لتكن الجمعة قبل قدوم رمضان موعدا لغداء عرسه، والاحد الذي يليه لإكليله بالكنيسة ، رغم ما يكلفه من جهد وتعب .
تعددت قصص المحبة والاخاء والتعايش ، فجدتك يا يمان ، تأخرت بالانجاب، وبحكم العلاقة الاخوية والجيرة الطيبة، أنذرت أن تعمد أول ولد لها بالكنيسة، وهذا ماحدث معي يا بني، فبعد أن ولدت، اقيمت مراسيم العماد فجد صديقك بالروضه نزيه هو من اتم هذه الطقوس، وجدته هي شبينتي، وخاله هو شبيني،وحتى هذه الايام نزورهم ونحترمهم.
كما شهد جامع وكنيسة عين عريك على "الحلقة الأخيرة" من حكاية الشهيدين رمزي شاهين وأنس خليل حيث أن شاهين من مواليد العام 1970، و خليل من مواليد العام 1966، قد استشهدا في الحادي عشر من تشرين الثاني العام 1991، في منطقة النقب جنوب فلسطين بعد أن عبرا الحدود المصرية باتجاه الأرض المحتلة، مع مجموعة فدائية مؤلفة من أربعة مقاتلين، فوقعت معركة أسفرت عن استشهاد الثوار، فيما لم يعلن الاحتلال عن خسائره، فكان وداعهما بعد الافراج عن الجثامين مشهدا مؤثرا معبرا عن الوحدة الوطنية الاسلامية المسيحية، فقد تعانق الصليب و الهلال و المسجد و الكنيسة و صوت الاذان مع قرع اجراس الكنيسة, وصوت الشيخ الذي كان يصلي في مسجده مع صوت المطران الذي كان يصلي في كنيسته .(6) صورة الشهداء .
في ظل ما يشهده العالم أجمع من صراعات وفتن طائفية، ونزاعات عرقية ، ستبقى عين عريك وطن مصغر ، ادخلوها امنين مطمئنين ، لتجدوا فيها التعايش والاخاء ، فلنحافظ على هذا الرونق الذي يقهر الاعداء .
ملاحظة : بعد غياب طويل ، استطاع اهل النخوة والأصالة أن يتفقوا على تشكيل مجلس قروي عين عريك، الذي يضم كتيبة مناضلة من خيرة أبناء القرية، ممن يشهد لهم بالاستقامة والعمل المخلص والروح الطيبة ، التي تتطلب من الجميع العمل يدا بيد من أجل انجاح مهام المجلس.
بقلم/ حسني شيلو