أدى الإنقسام الذي شهده الوطن الفلسطيني قبل إثنى عشر عاما إلى أحداث وتداعيات تجاوزت في أبعادها وتأثيراتها السياسية والإجتماعية، لتتطور وتصبح فيما بعد أزمات ومشكلات مزقت النسيج المجتمعي للشعب الفلسطيني، عبر سيادة مبدأ التحزب والتشدد والتطرف الذي حمل في طياته الأحقاد والضغائن والغلو وعلى كافة المستويات والصُعد سواء السياسية والدينية والإجتماعية، وهو ما عزز من ثقافة الإنقسام وغياب الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع.
ولا شك فإن البيئة السياسية التي ولدت بعد حدوث الانقسام أدى إلى تغيير وطبيعة الخطاب السياسي الذي تم تبنيه في هذه المرحلة، فقد لعب دوراً لا يمكن تجاهله في تكريس ثقافة الكراهية والبغضاء والتحزب الأعمى بكافة أشكالها، وإستغلال كل طرف من الأطراف المنقسمة الفرص السانحة للحصول على أكبر قدر من المكاسب والمصالح السياسية والإجتماعية، والدفع باتجاه تعزيز الولاءات الضيقة على حساب الولاء الوطني الجامع الشامل.
ومما عزز من خطورة هذه المرحلة أنها أنتجت سلوكيات وممارسات لم تكن مألوفة من قبل على صعيد المجتمع الفلسطيني، غلب عليها طابع الصراع والتطرف والأحقاد والكراهية للطرف الآخر، الأمر الذي ساهم بدوره في زعزعة السلم الأهلي والإندماج الوطني وغياب روح المواطنة بين فئات المجتمع.
وعلى الرغم من عدم إنكار خطورة المرحلة الراهنة وبكافة مستوياتها، فإن التطلع نحو المستقبل يحتم على الجميع التوجه نحو إجراء مراجعة دقيقة وموضوعية بعيدة عن الإنتماءات الضيقة لطبيعة ومخاطر التحديات والتهديدات التي تواجه الوحدة الوطنية في الوطن الفلسطيني، إذ أن إدراك تلك المخاطر وتداعياتها يشكل المنطلق والبوابة الرئيسة التي من خلالها يمكن وضع الحلول والآليات الناجعة للحيلولة دون تفاقم تلك المشكلات وتحولها إلى أزمات من الصعوبة إيجاد الحلول لها.
وفي هذا السياق، فإن تجاوز حالة الإنقسام والتفكك الإجتماعي والسياسي الذي يعاني منه المجتمع الفلسطيني يتطلب قدراً كبيراً من العقل والحكمة، بهدف إعادة بناء النسيج الإجتماعي والوحدة الوطنية وإشاعة مبدأ التعايش السلمي بين الأفراد، من خلال التأكيد على سيادة قيم الإعتدال والوسطية كونها لغة العصر التي يجب أن تسود، وتغليب مفهوم الحوار والتسامح والتقارب في العلاقات واحترام الرأي والرأي الآخر، والإبتعاد عن الخطابات الطائفية المجزئة للنسيج الإجتماعي.
إن التركيبة المجتمعية التي تتميز بها فلسطين والقائمة على التنوع الديني، لم تساهم وعلى مدى عقود طويلة من الزمن في تحقيق الوحدة الوطنية والتقدم والتطور في الوطن، بل أحدثت فجوة كبيرة في العلاقات القائمة وعلى مختلف الصُعد، الأمر الذي أثر على مسار النظام والعملية السياسية، وأدى إلى قيام نزاعات وتقاطعات عنيفة ولا سيما النزاعات الفصائلية والحزبية.
وعليه فإن عملية تحقيق التعايش السلمي في الوطن الفلسطيني تحتاج إلى بذل جهود كبيرة من أجل الوصول إلى اطار عام وأساس متماسك لإعادة هيكلة وبناء المجتمع من جديد، فالحساسية المفرطة بين الجهات في حالة من التخاصم والإختلاف، والشعور بالحقد والكراهية وفقدان الثقة تجاه بعضهم البعض يستدعي العمل الجاد لإعادة اللحمة فيما بينهم، من خلال تحقيق التعايش السلمي ضمن الوطن الواحد عبر إعطاء الأولوية لإشاعة منهج الإعتدال والتسامح بين أبناء الوطن الواحد وصولاً إلى تحقيق المصلحة الوطنية الشاملة على حساب المصالح السياسية والحزبية الضيقة.
وإنطلاقاً من مواجهة ظاهرة الغلو والتطرف، لا تتم إلا من خلال إحياء دور العقل ودراسة الظروف الإجتماعية التي ساهمت في تفشي تلك الظاهرة والتعرف على أسبابها وسبل مواجهتها، يأتي منهج الإعتدال والوسطية كونه من السبل والآليات الناجعة للقضاء على تلك الظواهر الشاذة في المجتمع.
وفي هذا الإطار تبرز ثمة معالجات متوازنة وواقعية، يمكن الأخذ بها لتحقيق التعايش السلمي في فلسطين وصولاً إلى الإندماج الإجتماعي في الوطن ككل وذلك عبر مجموعة من الإجراءات والوسائل من خلال إعتماد منهج الإعتدال والوسطية سواء على صعيد الفكر أو الممارسة، لما له من تأثير مهم في صيانة السلم الأهلي وتحقيق العيش المشترك في هذه المرحلة الحرجة، وهي:
1- إن طبيعة النظام السياسي القائم في الوطن لعب دوراً سلبياً في تمزيق التعايش والإندماج بين أفراد المجتمع، عبر قيامه على أسس المحاصصة والحزبية والفصائلية، الأمر الذي ساهم في خلق هويات حزبية وجغرافية ومناطقية على حساب الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة، مما أفقد النظام إمكانية بناء مؤسسات الدولة القوية، والحفاظ على أهم مقومات التسامح والسلم الأهلي.
2- تبرز ضرورة وضع دستور فلسطيني جامع وقانون موحد لجميع فئات المجتمع على أساس المساواة والعدل، لا على أساس إمتيازات الأحزاب والفصائل والحصص والتقسيمات البعيدة عن جوهر المواطنة بالمفهوم المعاصر، بل على أسس المشتركات العابرة للهوية الفرعية وفي إطار الهوية الوطنية الشاملة.
3- التأكيد على ضرورة إعادة بناء المنظومة الفكرية والثقافية للفرد كونه النواة الأولى للمجتمع والدولة، من خلال غرس المفاهيم الصحيحة والإهتمام بالتنشئة الإجتماعية للفرد عبر تشجيعه على التمسك بالطريق الصحيح الذي أكد عليه الدين الإسلامي الحنيف.
4- زيادة الوعي السياسي والإجتماعي والفكري لدى أبناء المجتمع الفلسطيني الواحد من خلال إبراز قيم الوسطية والإعتدال ودورها في التعرف على الأحداث والمشكلات بنظرة واقعية لا مثالية، عبر ترسيخ مبادئ الحوار الديمقراطي وإحترام الرأي والرأي الآخر، بعيداً عن أحادية الرأي والتطرف المقيت، وصولاً إلى قناعات مشتركة تساعد على بناء تصورات ومقترحات لكيفية مواجهة تلك المشكلات مستقبلاً.
5- أهمية التأكيد على تجاوز الخلافات والتناقضات الموجودة في المجتمع الفلسطيني، ولا سيما السياسية، عبر إشاعة قاعدة التقريب الفكري بين الكل الفلسطيني المختلفة من خلال تعميق التعاون في المشتركات وخلق الثقة المتبادلة بين الأطراف المتناقضة، وتجاوز مجالات الخلاف والتناقض، وهنا يأتي دور المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في الإطلاع بهذه المهمة من خلال التثقيف وزيادة الوعي بأهمية وحدة الدم والتراب، والتحذير من خطورة التشرذم والإنقسام اللجغرافي والسياسي القائم في المجتمع، وهو ما يسهم في بناء دولة المواطنة على أساس الحقوق والواجبات وعدم التمييز والتفرقة بين أبناء المجتمع.
6- إيجاد آليات بحثية علمية تساهم في نشر مبادئ العدل والمساواة والتسامح، والترويج لقيم الإعتدال والوسطية في المجتمع، ودورها في وضع الأسس والمفاهيم الصحيحة لتطوير المجتمع وفقاً لنهج الإعتدال في الفكر والممارسة، وبعيداً عن الشعارات والمثاليات التي قد تعمق من الخلاف والتناقض بين أفراد المجتمع، مع إمكانية تقنين ذلك قانونياً من خلال تشريع قانون يجرم كل من يخالف منهج الإعتدال والوسطية، ويدعو إلى التطرف بكافة أشكالها.
7- تُعد وسائل الإعلام المتنوعة اليوم هي أخطر مادة ثقافية تؤثر في ميول الأفراد ورغباتهم وأفكارهم وعواطفهم، من خلال استغلالها من قبل بعض الأطراف ضد أطراف أخرى لنشر ما يريدون من أباطيل وتشويه الحقائق وإشاعة الأكاذيب والفتن، الأمر الذي يتطلب العمل الجاد على تقويم وإعادة تأهيل وسائل الإعلام المعاصرة، ولا سيما المليئة بالإنحرافات السلوكية والفكرية وضرورة الإنتباه إلى وسائل الإعلام المرئية منها كونها وسيلة موثوقة من وسائل التثقيف والترويج، فضلاً عن وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة الأخرى.
لا شك أن تلك المعالجات والمقترحات لا يمكن أن ينتج عنها أي تقدم في الإتجاه الصحيح إذا لم يكن هناك توحد في الرؤى والأهداف على المستوى الوطني، وضرورة إدراك وإستيعاب طبيعة التحديات والمخاطر التي يواجهها الوطن، بدءاً من مستوى النخب السياسية التي تتولى إدارة الوطن عبر إنتهاج منهج وإطار جديد في طبيعة الخطاب السياسي الفلسطيني المعاصر القائم على أساس سمو وعلو طرف على الأطراف الأخرى، وعدم تقبل النقد للآراء والتوجهات المطروحة وكأنها أشياء مقدسة لا يمكن المساس بها.
فضلاً عن ذلك فإن مختلف شرائح المجتمع الفلسطيني مطالبة بالعمل على تمتين الجبهة الداخلية، والنأي بنفسها عن عوامل ومسببات الفرقة والإنقسام، والتوجه نحو عوامل الوحدة والتعايش السلمي، بدءاً من العائلة وحتى المستويات الأخرى من المجتمع، كون المسؤولية ليست منفردة وإنما هي مسؤولية تضامنية - تشاركية في سبيل الوصول بالوطن والمواطن إلى بر الأمان.
آخر الكلام:
في ظل غياب الروح الوطنية، والفهم لمنظومة الحقوق والواجبات، تضحي مفردات الوطن والمواطنة في مهب الريح، وتصبح المواطنة منازل ودرجات، وتصير الوطنية لعبة مصالح.
بقلم/ رامي الغف*
*اعلامي وباحث سياسي