من الطبيعي ان يصادف الإنسان آلاف البشر، لكن القليل من بينهم يترك علامات مميزة في الذاكرة والمشاعر.. ويجبرك على الابتسام والفرح عندما يمر طيفه في الذاكرة، او تقفز مواقفه لتفرض نفسها على حديث يدور عن القصص المميزة، والروح المرحة، ومخزون الحكايا الذي لا ينضب .
من بين هؤلاء كان حاضرا رفيقي الجميل الراحل زياد عاشور.. ابن مخيم جباليا، الذي تلمس منذ مطلع شبابه طريقه النضالي منتميا لصفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني.. حزب الشعب الفلسطيني.. ومنحازا بكل إيمان راسخ لجذوره الطبقية، فهو العامل البسيط الذي كافح مرارة الحياة، متنقلا بين ورش العمل ما بين قطاع غزة وداخل الخط الأخضر .. صقلته الحياة فامن بالفكر الشيوعي الذي مكنه من أن يرى الحياة بعيون جديدة، والتعامل معها بإرادة متمردة.. تسلح بوعي ثوري أسعفه على فهم واقعه، وعمق من إدراكه لحركة التاريخ وحتمياته الراسخة بانتصار المظلوم على الظالم، والكادحين على مستغليهم، والشعب المناضل على جلاديه .
إلتقيته منذ مطلع ثمانينات القرن المنصرم.. كان رفيقا ملفتا للانتباه في حركته وحماسه وعطائه الذي لا يعرف حدود.. كان عنوانا للتطوع والحرص اللامتناهي على مصلحة الناس، وتقديم المساعدة للأكثر احتياج من بينهم.. كان لبصماته اثر في انطلاقة لجان العمل التطوعي التي بادر لتشكيلها الحزب في مخيمات وقرى ومدن قطاع غزة عام ١٩٨١م.. وكان متحمسا دائما للمشاركة في أيام العمل الطبي التطوعية والمجانية التي كان ينفذها رفاق وأصدقاء الحزب الأطباء في المناطق الفقيرة لمساعدة أبناء شعبنا الفلسطيني..وقبل هذا وذاك، كان رفيق ملتزما مثابرا نموذجا للعضو الحزبي الكادح المثقف، المتواضع النفس، لم تلوثه النزعات الذاتية التي ما تشوه كثير من الأحيان صورة المناضل الشيوعي، حافظ بثبات على بوصلته التي تلازمت مع بوصلة الحزب واتجاهاته ومواقفه على الصعد كافة .
لم يسعفني الحظ كثيرا أن امكث معه داخل سجن النقب، حينما اعتقل مئات الرفاق على خلفية مشاركتهم الواسعة والنشطة في فعاليات الانتفاضة الكبرى.. نُقل إلى القسم الذي كنت اقضي فيه مدة اعتقالي الإداري، ولم تطول فترة إقامتي معه، حيث تم نقلي ومجموعة أخرى إلى قسم أخر اثر تصعيد شهده المعتقل، لكني اجزم بان الفترة التي قضيتها معه كان من أجمل الفترات التي عايشتها على مدار سنوات اعتقالي.. كان حديثه مشوقا لا يمل.. يرافق حديثه حركات تعبيرية تضيف رونقا وبعدا عميقا مؤثرا على مستمعيه.. حدثني عن قصص بطولية لرفاقنا وشعبنا منذ اللحظات الأولى لاندلاع الانتفاضة.. وكيف استطاع مع رفاقنا في مخيم جباليا، ان يحول جنازة العمال الذين استشهدوا حينها داخل الخط الأخضر اثر حادث دهس، من جنازة عادية إلى جنازة تمرد وعنف ضد المحتلين، حيث بادر وهو محمول على الأكتاف بالهتافات الوطنية والحماسية عند مركز شرطة جباليا، مما ألهب مشاعر أبناء المخيم، لتندلع مواجهات عنيفة، أجبرت مركز الشرطة الإحتلالي على استدعاء قوات كبيرة من جند الاحتلال، الذين تصدوا للجنازة التي تحولت إلى مظاهرة كفاحية كانت الشرارة الأولى لتفجير الانتفاضة البطولية الكبرى.. اجل كانت الشرارة الأولى، وكنت يا زياد أنت صاعقها، وهذا يسجل لك ولحزبنا بمداد من شعاع الشمس .
نعم.. كنت الصاعق الأول، وكنت بطلا تشهد لك أزقة مخيم جباليا والمخيمات الأخرى.. هي الشاهد على تنقلاتك النشطة بين أزقتها لإيصال المساعدات للمواقع كافة، لتقديمها لأبناء شعبنا.. كنت تبدع في اختراق المناطق التي كانت محاصرة وممنوع التجوال فيها من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.. وكنت فارسا من فرسان توزيع ونقل مطبوعات الحزب وفي مقدمتها جريدة الطليعة ومنشورات الانتفاضة، لم تتردد يوما في تنفيذ المهام المطلوبة منك، فكنت ولا زلت وستبقى عنوانا للعضو الحزبي الملتزم، وللرفيق الذي أبدع بمزج المواقف والأحداث السياسية بحس الفكاهة والتشويق لأجل إقناع الناس .
رفيقي الودود.. ستلتقي هناك بمن غنى لعبد الودود .. للفقراء وللإنسان.. للكادحين وللأرض وللوطن.. هناك حيث تتمرد روح رفيقنا الشيوعي المناضل، والمغني المبدع الشيخ إمام، الذي لم تفارقك أغانيه، فكانت حاضرة دائما في لقاءاتك.. تستحضر الأجمل من بينها لتردد كلماتها، ومن ثم تغنيها بصوتك محاولا تقليد روعة شيخنا المتمرد.. اجل تلتقيه هناك مع جمع غفير من رفاقنا ورفيقاتنا وأحرار بلادي والعالم اجمع، لتنشدوا معا نشيد الحرية.. نشيد الأوطان ومجد الإنسانية.. نشيد الأممية الخالد الذي يسمو بقيم الإنسان فوق كل الأحقاد وقسوة الاستغلال.. تلتقيهم لتقول لهم.. سلام عليكم ولكم.. سلام من رفاق سبقناهم إلى مجد العلا، لكنهم يحفظون وصاياكم، وقابضين على أفكاركم كالقابضين على الجمر.. رفاق شعارهم الدائم والأبدي.. إنا باقون على العهد .
بقلم/ نافذ غنيم