إذا قلنا حاليا أن سلاح حماس الاستراتيجي هو الصواريخ والأنفاق؛ فإن سلاحها الاستراتيجي في فترة الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين، وصولا إلى انتفاضة الأقصى هو العمليات الاستشهادية؛ وقد رفض الشيخ أي مساومة أو تراجعا عن استخدام هذا السلاح مطلقا.
هكذا تكلم عماد الفالوجي
وعلى إثر تنفيذ الذراع العسكري لحركة حماس عملية استشهادية ضد مستوطنين في قطاع غزة، حدثت ضغوط شديدة على السلطة الفلسطينية من أمريكا وإسرائيل مع تهديدات مختلفة، ففرضت الإقامة الجبرية على الشيخ أحمد ياسين في منزله. وعن هذه الحادثة يروي المهندس/عماد الفالوجي في مقال له تحت عنوان (موقف خاص: عندما يختلف الكبار) شهادته على تلك المرحلة وذاك الموقف الصعب؛ ووقتها كان الفالوجي عضوا في المجلس التشريعي الأول، ووزيرا للبريد والاتصالات، وقد قامت حماس بفصله بسبب قراره المنفرد بالمشاركة في السلطة بشقيها التشريعي والتنفيذي، ولكن بقيت للرجل علاقاته مع إخوة الدعوة وهو الذي كان من القادة المبرزين في مرحلة سابقة.
الفالوجي كما يروي في مقاله ذهب إلى منزل الشيخ أحمد ياسين فوجده ممدا على سريره وسأله هل يريد شيئا ما فسكت الشيخ ولم يتكلم. عندها قرر الفالوجي الاستقالة لأنه لم يستوعب الموقف، وأخبر الرئيس عرفات بما ينتابه من مشاعر، وكان أبو عمار يدرك أن للشيخ مكانة خاصة في قلب الفالوجي، فطلب منه أن يعود إلى الشيخ ويسأله سؤالا واحدا محددا فقط: ماذا تريد من ياسر عرفات. وأسرع الفالوجي إلى منزل الشيخ الذي صمت بعد سماعه السؤال ثم قال: كان الله في عونه (ثلاثا) ثم قال إنه يريد ألا يعترض أحد طبيبه الخاص وألا يعترضوا حركة بناته أو النساء؛ فسارع الفالوجي إلى الرئيس عرفات وأخبره بالتفصيل عمار جرى، فأمر بتنفيذ طلب الشيخ فورا وظهر عليه الارتياح الشديد. يظهر هنا كيف كان الشيخ يزن المواقف والأمور بميزان الذهب؛ فهو لم ولن يصدر قرارا يطلب وقف أو إدانة العمليات الاستشهادية وفي نفس الوقت لن يحوّل وضعه إلى مظلومية خاصة، ولن يتسبب في حرج لأبي عمار لأنه يدرك أي نوع من الضغوط عليه.
حضور اجتماعات المجلس المركزي
حضر الشيخ اجتماعات المجلس المركزي المنبثق عن المجلس الوطني أحد مؤسسات م.ت.ف بعيد انتهاء ما يعرف بالمرحلة الانتقالية في اتفاق أوسلو ووجود ما يشبه الاستحقاق السياسي؛ وقد كتبت قبل أعوام أنني في فورة الشباب وعنفوانه قد انتقدت الشيخ بشدة لهذا الموقف، وقد أثبتت الأيام أن هذا الموقف برهان ساطع على حكمة الشيخ وبعد نظره، وحسه الوطني الذي يتسامى على أي مزايدة أو مناكفة من أي جهة أو شخص كان، وعلى المستوى الشخصي أشعر بخجل شديد من نفسي التي سولت لي بالخروج عن حدود الأدب في تقييم موقف الشيخ. لقد أدرك الشيخ أن الأمور ذاهبة للانفجار، وأن على الفصائل خاصة الفصيلين الأكبر تجاوز ما بينهما لأن القضية تمر باختبار صعب. كما أنه بمشاركته في اجتماعات المجلس أرسل رسالة إلى جميع الأطراف أن العدو المركزي هو الاحتلال الصهيوني وما سوى ذلك يظل من باب (مصارين البطن تتقاتل أحيانا).
انتفاضة الأقصى
المثل المصري الدارج (يوضع سرّه في أضعف خلقه) ينطبق على الشيخ من حيث أنه مشلول ومريض ولا يكاد يبصر، ومع ذلك هو شيخ الانتفاضتين (الحجارة 1987، والأقصى 2000م) بامتياز، فقد حدث ما كان يراه ويستشرفه وهو يشارك في اجتماعات المركزي، فانفجرت انتفاضة الأقصى في أواخر أيلول/سبتمبر 2000. وكان للشيخ فيها حضور قوي يجعلك تستحضر أن لهذا الرجل (سرّ) ما في شيخوخته وشلله ومرضه يواجه قوة جيش شارون؛ فقد أعاد مع إخوته بناء أذرع الحركة بما يتناسب مع الظرف الجديد، وسيشهد بداية صواريخ القسام وتطورها، وسيشجع عليها، وكأنه يراها تنمو وتكبر من حيث الدقة والقدرة على التدمير والمدى المتزايد.
هكذا يترجل الأبطال
قلت إن قادة الاحتلال أدركوا خطورة الشيخ أحمد ياسين على كيانهم ومستقبل استمراره فوق أرض فلسطين مبكرا، ولكن أن تصل بهم الحال إلى التجرؤ على قتله مباشرة فهذا ربما يستغربه المرء حين ينسى طبيعة المشروع الصهيوني القائم على جريمة تتولد عنها جرائم بمتواليه هندسية دموية. "هذا العدو فقد عقله!"، هذه كانت إحدى تعقيبات الشيخ أحمد ياسين بعد محاولة طائرات الاحتلال اغتياله في أيلول/سبتمبر 2003، لكن الشيخ الذي لطالما تمنى الشهادة وانتظرها رفض أخذ احتياطات خاصة أو تغيير نمط حياته، لا سيما صلاته في مسجد المجمع الإسلامي الذي كان خطيبا فيه والذي شهد فعليا تأسيسه لحركة حماس وهو قريب من بيته في حي الصبرة في مدينة غزة.
رفض الشيخ المكوث في المشفى بعد إصابته بوعكة صحية، وأكثر من الحديث عن الشهادة وعن الجنة، وزاد من الوصايا والمواعظ لبناته وأحفاده وسائر أفراد أسرته ولإخوانه. بعد كل هذا المشوار الطويل من اللجوء والفقر وشظف العيش ثم المرض والشلل والسجن والاعتقال والمحن والابتلاءات والجهاد والرباط والدعوة إلى الله، أتى لشيخ المجاهدين ما يغبط عليه؛ ولا أنكر أنني شخصيا فرحت لهذه النهاية، فلم يمت الشيخ على فراشه؛ بل وهو خارج من صلاة الفجر يوم الإثنين غرة صفر الخير 1425هـ، 22 آذار/مارس 2004م تقصف طائرات العدو كرسيه المتحرك ليترجل إلى مولاه مع تسعة مواطنين آخرين.
دولة مسلحة بالأسلحة النووية ومخازن السلاح الأمريكي مفتوحة لها على مصراعيها، ولها منظومة علاقات واختراقات رهيبة في الكم والنوع، تتجند بكافة مؤسساتها لقتل رجل يقترب من السبعين من عمره يتنقل على كرسي متحرك يدفعه آخرون، صوته واهن وبصره ضعيف ويحمل من الأوجاع والأمراض ما يتعب منه الطبيب، عبر قصف جوي... أستطيع أن أستنتج كيف ستنظر الأجيال القادمة لهذا الشيخ ولهذا الكيان ومن يقفون خلفه. هؤلاء الصهاينة الذين ما زالوا يرون في هذا العمل الإجرامي إنجازا وبطولة ويفاخرون به:-
لكن الشيخ ما كان يرهب من طائراتهم ولا صواريخهم الموجهة، وقد صار أيقونة وحجة على القاعدين أو المتأولين والمعوقين، وسنّ سنة حسنة في الدعوة والجهاد، وما كان يرجو إلا أمرا واحدا: أن يرضى الله عنه:-
وأخيرا وليس آخرا فقد عشنا مع الشيخ أحمد ياسين -رحمه الله- في المقالات التسعة عبر الأسابيع الماضية، وكما قلت لم يكن هدفي سرد سيرة الشيخ بقدر التوقف عند محطات منها وأخذ بعض الدروس والعبر، وكم من القبسات النورانية والكنوز وجدنا في سيرة رجل قلّما يعيش في الدنيا مثله. قتلوا الشيخ أحمد ياسين، فصار شهيدا فوق كونه شيخا للمجاهدين، وستظل الأجيال تتناقل سيرته وتقتبس منها معاني الفداء والجهاد والدعوة، وحب فلسطين والقدس... جزاك الله عن فلسطين وشعبها والمسلمين كل خير يا أبا محمد.
سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني