حينما تخسر القدس من يحبها وتحبه،تخلص في العطاء وحفظ الذكرى لمن هم اهلها،يبقى اهلها بكل مكوناتهم ومركباتهم السياسية الوطنية والمؤسساتية والمجتمعية مختلفين او متفقين معه في الرؤيا والفكر،حافظين له دوره ومكانته ونضالاته وتضحياته ورمزيته التي مثلها،وتخرج في وداعه عن بكرة أبيها،ولعل من الجنازات الكبرى التي خرجت في القدس،جنازات الشهداء عمر القاسم ومصطفى العكاوي،والدكتور احمد المسلماني،ولكن ما اعتقده بان جنازة امير القدس الراحل فيصل الحسيني،كانت هي الأضخم والأكبر،حيث القدس خرجت عن بكرة أبيها لوداع قائدها وفارسها الذي احبها واحبته.
الجميع يجمع حتى من تأمروا على فيصل وحاولوا عرقلة عمله في القدس وخلقوا له المرجعيات الموازية،وحاولوا إيجاد العناوين والبدائل،للحد من دوره وتأثيره وصلاحياته وشبكة علاقاته وإتصالاته،بأن رحيله شكل خسارة لكل المقدسيين، فهو مثل حالة إجماع مقدسي نادرة وقاسم مشترك لكل المكونات والمركبات الوطنية السياسية المقدسية،وبالتالي كان قائداً وطنياً بإمتياز،بدلالة انه من بعد رحيله،لم يستطع أي قائد مقدسي ان يملأ الفراغ او المكان الذي تركه خلفه،وربما الزمن الحراشي وحالة الضعف الفلسطيني وضعتنا امام قيادات الصدفة.
هناك من يعتقد بان الراحل الحسيني تبوأ مركزه او مكانته من خلال إرث وتراث ووطنية والده القائد الشهيد عبد القادر الحسيني،وسمعة عائلة الحسيني الطيبة،أو لكونه احد أبناء عائلات القدس العريقة،بل إعتقادي انا ووجهة نظري بانه حصل على موقعه ومنصبه عن جدارة في سياق صيرورة عملية،كفاحية،نضالية،مجتمعية وجماهيرية متواصلة،فهو على الصعيد الشخصي إمتلك "الكاريزما" القيادية،وابتعد الى حد كبير عن الفئوية،وكان حاضنة وعنواناً توافقت عليه كل مركبات ومكونات العمل الوطني والسياسي والمجتمعي الفلسطيني،حيث وجدت في مؤسسة بيت الشرق التي يقودها،عنوانا سياسيا تستطيع من خلاله مخاطبة سفراء الدول الأجنبية والزوار من الوفود الأجنبية،لكي تطلعها على ما تتعرض له مدينة القدس من إجراءات قمعية وإذلالية وتنكلية بحق اهلها الفلسطينيون من قبل دولة الإحتلال،وما يقوم به هذا الإحتلال وبلديته ووزارة داخليته من اعمال وتعديات وتجاوزات وخروقات بحقهم خارجة عن القانون الدولي،وتشرح لها كل ما يتصل ويتعلق بالموقف الفلسطيني من مجمل قضايا المنطقة وفي مقدمتها الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
الحسيني بطيبته وبساطته واخلاقياته المثالية التي تربى عليها في بيته وحركة القوميين العرب التي انتمى اليها باكراً وعدم تلوثه بالفساد الذي طبع ويطبع الكثير من العاملين في السلطة ومؤسساتها بنسبة كبيرة،وقربه من الناس وهمومهم وتطلعاتهم،ومشاركتهم في أتراحهم واحزانهم،والوقوف على تفاصيل حياتهم،وكذلك المساهمة الجادة في إيجاد حلول لهم لما يتصل بمشاكلهم في العلاقة والصراع على الوجود في القدس مع الإحتلال،جعلت هذا الرجل يمتاز ويتميز عن وعلى غيره ممن عهد اليهم بقيادة ملف القدس من بعده.
أبا العبد القدس سكنت في عقله وقلبه كمقدسي أصيل،كان جل إهتمامه بان لا نخسر معركتنا في صراعنا مع المحتل على المدينة،هذا المحتل الذي يملك من الطاقات والإمكانيات والقدرات عشرات،بل مئات أضعاف ما نملك...ولذلك كان حريص على ان يوفر للمقدسيين أقصى ما يستطيع من مال وإمكانيات وحلول تمكنهم من الصمود والبقاء،حتى انه في اكثر من محطة ومناسبة وقضية وضائقة لجأ لإقتراض الأموال من اجل المصالح العامة للمقدسيين،كان بيته ومكتبه محجاً لكل أبناء الشعب الفلسطيني حتى من خارج مدينة القدس،حيث يتوسم فيه أبناء شعبه الخير والعطاء،ولذلك كان دوماً عنوان توحيد وتجميع،لا عنوان فرقة وإنقسام،شعاره الدائم القدس فوق الجميع،والقدس تجمعنا وتوحدنا.
مع رحيل أبا العبد الحسيني،الكل في القدس متفقين على انهم اصبحوا أيتاماً،لا عنوان او مرجعية لهم،رغم وجود اكثر من عشرة مرجعيات وعناوين تنطق باسم القدس،ولكنها للأسف ليست محط ثقة وإجماع وإحترام المقدسيين،بل ينظر لها المقدسيون على انها مسميات ومؤسسات بدون مضامين او فعل جدي وحقيقي،إستحدث البعض منها من اجل حل خلافات وإشكاليات ومواقع لهذا القائد او ذاك،ليس لها علاقة او حضوراً او مساهمة في معالجة جادة وحقيقة لما يواجه المقدسيون من حرب شاملة تشن عليهم من قبل دولة الإحتلال وبلديتها ودائرة معارفها واجهزتها المختلفة امنية ومدنية،من اجل طردهم وتهجيرهم عن مدينتهم،عبر مجازر ترتكب بحق البشر والحجر والشجر،مجازر الإقتلاع والطرد والتهجير القسري،وخنقهم حتى في أدق تفاصيل حياتهم اليومية،ودفعهم نحو الإحتراب العشائري والقبلي والطائفي والجهوي،وتفكيك وتدمير نسيجهم المجتمعي والوطني،وأسرلة وعي أبنائهم الطلبة و"تطويعه" و"صهره"،عبر فرض منهاج التعليمي الإسرائيلي عليهم بالكامل من المرحلة الإبتدائية.
إن من يتحمل المسؤولية المباشرة في تعدد العناوين والمرجعيات،وحالة "التوهان" والضياع التي يعاني منها المقدسيون،نتيجة التضارب والتنافس فما بينها،هو المستوى السياسي ممثلاً باللجنة التنفيذية وقيادة السلطة الفلسطينية،والتي هي من يمتلك القرار والصلاحية،في توحيدها ووقف حالة التشرذم والتعددية فيها،وتبديد وهدر المال العام على مثل هذه المرجعيات،التي لا يلحظ لها أي فعل وعمل جدي لخدمة أبناء المدينة،وبالذات القرى والبلدات الواقعة تحت مسؤولية وسيطرة بلدية الإحتلال،ومن هنا أقول بانه آن الاوان لكي يتم وضع النقاط على الحروف،بان تتحرك المرجعيات السياسية لكي تستجمع كل الإمكانيات والطاقات،عبر مرجعيتان او ثلاثة على الأكثر،تتفرع عنها عناوين ولجان ذات إختصاص،فالمقدسيون وصلوا حالة الكفر،بكل ما هو قائم،ويعتبرون بأنهم أصبحوا فئران تجارب ومصدر رزق ودخل و"شحدة" و"تسول" للبعض ولكن دون ان يقدم لهم من دعم ومال وإمكانيات وحتى مواقف سياسية،بما يمكنهم ويعزز صمودهم وبقاءهم.
في الذكرى الثامنة عشرة لرحيل امير القدس وفارسها،نقول آن الآوان لنا كمقدسيون ان نغادر لغة الندب والبكاء والتشكي،وان نستجمع كل طاقاتنا وإمكانياتنا ونوحد جهودنا وإمكانياتنا عبر مرجعية شعبية علنية يجري فرضها على صناع القرار بان تكون العنوان التمثيلي لأهل القدس،فيما يتصل بهمومهم ومشاكلهم اليومية،فالقدس تهود وتأسرل في تسارع غير مسبوق،ولن ينفعنا ولن يفيدنا،استمرار الجدل البيزنطي حول جنس الملائكة ذكر أم انثى...الخطر داهم،جدي وحقيقي،وحكومة الإحتلال من بعد قرارات المتصهين ترامب،وهي تستثمر سياسياً قراراته،من اجل تهويد المدينة وأسرلتها وتغيير طابعها وواقعها الجغرافي والديمغرافي لمصلحة المستوطنين،وبما يقصي الوجود العربي الفلسطيني في القدس ن خلال قوانين وتشريعات عنصرية يتقدمها ما يسمى بقانون أساس القومية الصهيوني وقانون المواطنة والدخول الى دولة الإحتلال.
قادة الإحتلال يقولون بان القدس لنا موحدة غير مقسمة وعاصمة أبدية،والتهويد يتم بالأقوال لا بالأفعال،ونحن مستمرون في رفع الشعارات وبيانات الشجب والإستنكار و"الهوبرات" و"الزعبرات" الإعلامية،بان القدس عاصمتنا الأبدية،والقدس خط احمر،دون ترجمة فعلية لذلك على الأرض،فهل نصحو مما نحن فيه وننقذ قدسنا من الضياع،ام نستمر في جدلنا البيزنطي حول جنس الملائكة ذكر ام أنثى ...؟؟.
بقلم/ راسم عبيدات
القدس المحتلة – فلسطين
29/5/2019