في شهر مايو 1987، كان "الهروب الكبير" لستة من رجال الجهاد والمقاومة الفلسطينية، كانت ملحمة بطولية استثنائية، حيث نسج حكايتها من حملتهم الملائكة في جوف الليل وبعد صلاة الفجر من شهر رمضان الكريم إلى فضاء الحرية والكرامة والشموخ، رغم الحراسة الأمنية المشددة والأسوار العالية ونافذة الزنزانة الضيقة، التي خرجت منها أجسادهم، بعدما أكلت نتوءات الحديد المتبقية على جدرانها ما طاب لها منها. المهم في تلك الرواية الملحميِّة، أنهم تنفسوا الصعداء بعدما وصلوا لأول محطات الأمان، قبل أن يصحو العدو الإسرائيلي ويكتشف غيابهم في عملية العد الصباحي بعد ساعتين.
كان أخي خالد والمعروف باسم "عز الدين" واحداً من بين هؤلاء الرجال الذين سطروا مشاهد تلك الملحمة، التي ما زلنا نتذكر بعض وقائعها وحالة الهستيريا التي أصابت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في إطار البحث عنهم، حيث كانت أماكن الصمت قد ابتلعت آثارهم داخل الحواري الضيقة في الشجاعية وغيرها من المخيمات، التي تنقلوا فيها قبل أن يُفاجئوا العدو بأكثر من عملية عسكرية مباغتة، أصابت - لدقتها وجرأتها - أكثر من مقتلة موجعة بجيش الاحتلال وأجهزته الأمنية.
قصة "الهروب الكبير" لا بدَّ أن تروى للأجيال؛ لأنها ملحمة بطولية بامتياز، ونحن أبناء هذا الوطن نعتز ونفخر بكل رجالاتها الشهداء والأحياء.
باختصار سأروي لكم بعضاً من صفحات أخي عز الدين، وسأترك تفاصيل المشاهد وتجليات الوقائع لآخرين هم بالتأكيد الأقدر على رسم ملامحها، وتسطيرها مشاهد وصور لن تغيب من ذاكرة تاريخنا الفلسطيني.
طفولة لاجئ: رجولة أيقظها الاحتلال
في آخر الوطن ولد أخي خالد (عز الدين)، في أحد الأيام التي سبقت الهزيمة العربية الثانية عام 1967، حيث تفتحت عيناه على جنود الاحتلال وآلياته، وقد تلقى أبجديات المقاومة في بيت من أب وأم واثني عشر أخ وأخت بمخيم "الشبورة" في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، ذلك القطاع الذي صنع أعظم الملاحم النضالية في تاريخ المقاومة الشعبية الفلسطينية.
كان عمر خالد في السادس من أكتوبر 1987 - اليوم الذي وقعت فيه عملية الشجاعية البطولية - قد تجاوز العشرين من عمره.. وبين ميلاده وذلك التاريخ سلسلة لا تنتهي من الذكريات، والتشرد والسجن والهروب، وأحاديث تداعب خياله عن قصص الفدائيين الذين يجيئون ويروحون ويستشهدون.. ما زالت أنامله تتذكر ملمس أول قطعة من سلاحٍ أمسك بها حين كان عمره ثلاثة عشر عاماً، وذكرى أول اعتقال له، حين وجد وهو يحفر قطعة كلاشنكوف مخبأة تحت شجرة زيتون، عند جورة (أبو نايف) المجاورة للمخيم. في المساء كان الجنود يستجوبونه.. وصار عقله يعي معنى الاحتلال، حيث أخذت الأسئلة وعلامات الاستفهام تتزاحم على لسانه، وبدأت ملامح الوعي والثورة تتبلور لديه، مختلطة بحكايات الأب والأم الدائمة عن الوطن والبيارة والدار.. يتذكر خالد (عز الدين) أنه كان - عندئذ - في الرابعة عشر من عمره.. ومع موجة الصحوة الاسلامية التي بدأت تتبلور منذ نهاية السبعينيات، وجد نفسه أقرب الى تبني الخط الجهادي. ومع إطلالة الثمانينيات، كان قد اندمج في العمل الجهادي المسلح ضد أبشع استعمار استيطاني إحلالي عرفه التاريخ البشري.
قصة أخي عز الدين ليست غريبة أو فريدة من نوعها، فهي قصة كل فلسطيني يولد في الوطن أو في المنافي والشتات، ويجد قَدره أن وطنه قد اغتصب، وأنَّ شرف بلاده قد انتهك، وأن عليه ان يستعيد ذاته وكرامة أهله ووطنه السليب.
الهروب الكبير: الملحمة وسيمفونية الحرية
في الثامن من ديسمبر 1984 اعتقل أخي خالد (عز الدين)، ومرَّ بسلسلة الطقوس التي تمر على المعتقل الفلسطيني، من حيث توجيه التهم، والتحقيق والتعذيب، ثم كان الحكم عليه بالسجن المؤبد. لكنَّ شعوراً كامناً لم يفارقه بأن السجن مرحلة مؤقتة، وبأنه لا محالة سيخرج منه، وسيواصل الجهاد والثورة. إنه حُلم الهروب، الذي يداعب خيال كل سجين، وقد راودته الفكرة هو وبعض إخوانه، وكانت مهمته هي محاولة ادخال "منشار حديد" لكي تتم العملية ويتحقق المراد، ولكنَّ المهمة لم تكلل بالنجاح بعد ثلاث محاولات منها.
كانت الفكرة التي راودته بالهروب من السجن تراود أيضاً إخوةً آخرين؛ الشهداء الأحياء: مصباح الصوري، محمد الجمل، سامي الشيخ خليل، وقد أشركوه فيها، وبدأ التخطيط والتدبير يجري بصمت، حيث تمَّ رصد حركة الجنود والسجَّانين والحراسات.
ليلة 17 مايو 1987، وفي غرفة رقم "7" بقسم "بيت" في سجن غزة المركزي كان هناك 25 معتقلاً، وتحت أًصوات التهليل والتكبير المجلجلة بعد صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك، كانت تجري الاستعدادات لعملية الهروب الكبير بعد الانتهاء تماماً من نشر حديد قضبان نافذة الحمام، التي كانت تفصلهم عن فضاء الحرية والكرامة. كانت جلبة التكبير بصوت عالٍ تهز جدران المبنى، لكي يطغى هذا الصوت الهادر على صوت احتكاك المنشار بالحديد، وجلبة التدافع للخروج من تلك النافذة الضيقة.
في تلك الليلة الموعودة، كانت هناك طاقة أمل تنفتح بالجدار، في أفق الحلم وفي جهاد شعب، فقد أراد هؤلاء الخروج من السجن لا لكي ينعموا بالهدوء، ولكن لكي يواصلوا مشوار الجهاد والمقاومة.
كانت المشاعر فياضة، وبعد الوداع انسلَّ هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم من فتحة الجدار، وكان موعداً مع الآيات والكرامات التي رأوها ولمسوا فيها رعاية الله القدير، وهي تُعمي عنهم عيون المراقبة، وتُخرس كلاب الحراسة المتوحشة، وتطفئ أنوار المكان الساطعة بهالة من الضباب الكثيف.
بلمسة من يد زميلهم مصباح الصوري - حافظ القرآن - لم يحس أحدهم بطعم الأسلاك الشائكة وهي تنهش لحمهم؛ لأن شوق الحرية قد ملأ كأس الحياة، فلم يبقَ متسعٌ للإحساس بالأشياء الصغيرة. لقد بلغت ذروة النشوة حدَّ الثمالة، حتى أن الأخ مصباح الصوري لم يتردد في فتح سيارة أحد الضباط الإسرائيليين بحثاً عن قطعة من السلاح لمصادرتها ً، قبل أن يطلقوا سيقانهم للريح لتقودهم إلى أبعد نقطة تلوح في المدى باتجاه فضاء النور والحرية.
حين كان أخي يحدثني عن تفاصيل عملية الهروب، لم يكن يدع لي مجالاً للشك بأن يد الله سبحانه كانت فوق أيدي أعدائهم، وفي أثناء الاختفاء تدرك كذلك أن عناية الله كانت تحرسهم؛ فطائرة الهليكوبتر التي كانت تطاردهم وتهبط إلى مستوى مترين عن سطح الأرض، وتهز مروحيتها الرهيبة جذوع الشجرة التي يختبئون تحتها في أحد البيارات، ولا يرونهم وهم في فجوة بين أغصانها، وقلوبهم متعلقة بالرحمن، وأنظارهم شاخصة للسماء في مناشدة وابتهال، وعندما تتقابل النظرات كان أحدهم يقول بعيونه للأخر: لا تحزن إن الله معنا.
كانوا ستة من رجالات الجهاد والمقاومة: محمد الجمل، مصباح الصوري، وسامي الشيخ خليل، وصالح إشتيوي، وعماد الصفطاوي، وخالد صالح (عز الدين). كانوا ستة من الفتية الفرسان الذين جعلوا إسرائيل وجهاز أمنها أضحوكة يتندر بها الفلسطينيون.
لقد تحطمت أسطورة الجهاز الأمني الذي لا يُقهر، وزادت جرأة الجماهير على تحدي العدو المحتل، كما أنها أربكت حسابات الأمن الاسرائيلي وأفقدته الكثير من السمعة والاعتبار. لقد أدركت اسرائيل مدى اهتزاز صورتها في منظار الجهة المقابلة، وهي الصورة الوهمية المطلوبة لغرس اليأس والاحباط في الناس، وزرع الخوف والرعب في داخلهم.
حقيقة؛ إن هذه النتيجة هي أهم ايجابيات هذه العملية الموفقة، والتي أسست - مع غيرها دون شك - جرأة الفلسطيني وتمرده على جندي الاحتلال، واعتبرت العملية - في حدِّ ذاتها - انتصاراً كبيراً، حيث انكشف العدو بكل نقاط ضعفه وثغراته، واكتشفت الجماهير الفلسطينية أنه مجرد وَهمٍ زائف، وأن بيته أوهى من بيت العنكبوت.
منذ الفرار من السجن، قامت هذه المجموعة بعدة عمليات جريئة، وفي منتصف الظهيرة تمَّ قتل مسئول الأمن العسكري لقطاع غزة الرائد "رون تال"، كما أجهزوا على مسئول جهاز الاستخبارات "شين بيت"؛ العقيد فيكتور أرجوان، كما نفذت المجموعةُ المُطاردةِ ثلاث عمليات أخرى في ثلاثة أيام متوالية في منطقة جباليا، بالإضافة إلى عشرات العمليات التي تمَّ تنفيذها بالسلاح الأبيض.
وعليه؛ حين شاع الخبر الذي كان يتردد من خلال العمليات أن هؤلاء المجاهدين لم يهربوا من السجن ليلوذوا بالسلامة والأمان، ولكن لكي يواصلوا طريقاً حرمهم السجن من مواصلته، ارتفع منسوب المباركة والتقدير والاحترام لهم بين الناس، كما تعالت المعنويات داخل الشارع الفلسطيني، وصارت المطالب هي ضرورة ارتفاع وتيرة المواجهة مع الاحتلال، فكان هذا بمثابة تحدٍّ آخر، قاد إلى المزيد من العمليات العسكرية التي مهدت الطريق بعد عدة شهور إلى الانتفاضة الشعبية الواسعة بوجه الاحتلال في الثامن من ديسمبر 1987.
كان هذا النموذج بمثابة دم جديد لا يخاف الموت ولا يخشى مهاوي الردى، دماً يسري في عروق الأمة فيمنح شريانها نبضاً لحياة جديدة.
استمرت عمليات الجهاد والمقاومة دون توقف، إلى أن اضطر اثنان من المجموعة هما عماد وخالد (عز الدين) الى الخروج من الوطن عبر صحراء النقب وسيناء المصرية، في رحلة أخرى من رحلات العناية الإلهية لكي يتزودوا بالسلاح، ويعودوا ثانية بعد ثلاثة شهور على أقصى تقدير، كما اتفقوا مع إخوانهم.. بينما واصل الآخرون جهادهم الذي بلغ ذروة سنامه في اشتباك "الشجاعية" الشهير. وحين سرى خبر استشهادهم، أدركت الجماهير أنهم بحق رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ ضحوا بدمائهم لتحيا أمتهم، فخرجت الجماهير تزفهم وتعلن اعتزازها وفخرها وكبريائها بهم.
ظلت شرارة الانتفاضة متقدة حتى العام 1994، حيث عاد ياسر عرفات والآلاف من رجالات منظمة التحرير إلى أرض الوطن مع توقيع اتفاق أوسلو، ولكنَّ وميض الدماء الزكية لم تنطفئ إشراقاتها، وظلت تتجدد لتأخذ شكلاً جديداً من مقارعة الاحتلال، وإن كانت اليوم تمضي بصورة سلمية وأقل عسكرة من سنوات سابقة.
مصر: المحطة الأولى بعد الوطن
لقد كانت الرحلة عبر صحراء النقب شاقة ومضنية، ستة أقدام كانت تدوس الأرض وتقطع المعبر التاريخي للأنبياء والغزاة.. كم من نبي تغبَّرت قدماه بتراب هذه الأرض قاطعاً إياها، وكم من مهاجر وكم من غاز أو ذاهب للحج وعائد منه.. لكنَّ هذه الرحلة كانت رحلة الخوف والمخاطر، فإن نجوا من قبضة الدوريات الإسرائيلية فقد لا يسلمون من الدوريات المصرية.
بعد عدة أيامٍ وليالٍ من التخفي والتنقل في سيناء، وصل خالد (عز الدين) وعماد الصفطاوي إلى القاهرة.. وهناك اكتشفت المخابرات المصرية خبرهم فطاردتهم.
يبدو أن قدر أخي عز الدين أن يعيش مطارداً أبداً، حيث اعتقلته السلطات الأمنية المصرية وهو يحاول الخروج باتجاه السودان، وحققت معه وعذبته وسجنته. وبعد اضراب طويل عن الطعام، تقرر ترحيله مع إخوة آخرين من المناضلين والمطاردين والمبعدين من قبل السلطات الإسرائيلية. وهكذا، أُبعد أخي بعد شهرين إلى العراق مع محمد دحلان، وسمير الجديلي، وعماد الصفطاوي.
وفي العراق، استقبلهم الكرم والشموخ والنخوة، وأحيطوا بتكريم الأبطال الذين يستحقون.. وهناك كانت فرصة التعرف على الشهيد أبو جهاد (رحمه الله) الذي أحاطهم باهتمامه ورعايته.. وبعد أربعة شهور في بغداد، توجه أخي إلى الامارات العربية لزيارة بعض الأقارب هناك، حيث مكث فيها شهرين، ثم توجه بعدها إلى الجزائر.
الجزائر: بلد الثورة والثوار
في الجزائر، أحس خالد (عز الدين) بدفء الثورة وحرارة الاحتضان في البلد الذي مارس الثورة وعانى من الاستعمار الاستيطاني.. ووجد أن الجزائر الذي آوى إليها هي المثابة الآمنة ليستمر في خدمة قضيته بأسلحة أخرى، ولا غرابة في ذلك. لقد كانت الجزائر دوماً حاضنة للثورة، وحاملة للواء الحرية، وكان شعبها أول من فتح الأبواب مشرعة للثورة الفلسطينية وقدَّم الدعم لها. لقد عاش أخي في الجزائر ككل اللاجئين الفلسطينيين الذين لا يغيب عنهم يوماً حلم العودة، باعتباره حقاً يأبى النسيان، ويدندنون باللحن الجميل: إننا لعائدون.. إننا لعائدون.
نعم؛ أحياناً تطارد الفلسطيني الكثير من التساؤلات المحزنة وعلامات الاستفهام المفجعة: إلى أين يذهب هذا اللاجئ ويحط الرحال، هل قدره أنه كلما عثر على مكان يؤويه يجد نفسه من جديد يبحث عن مكان آخر، هل هذا الفلسطيني هو ملكُ الصبر وأيوب الزمان الذي يدحرج الصخرة حتى إذا وصلت إلى القمة تدحرجت هابطة الى السفح، فعاد يصعد بها إلى أعلى من جديد، دون أن يدركه اليأٍس والملل؟!! ويبقي السؤال الذي يطارد كل فلسطيني في الغربة: لماذا "كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة".؟!
في بداية التسعينيات، وخلال سنوات العشرية الدامية أو المحنة الوطنية في الجزائر، وبعد تقارير مغرضة طالت أخي عز الدين، تمَّ استدعاؤه من قبل الجهات المعنية وابلاغه بأن عليه أن يغادر التراب الجزائري في أسرع وقت ممكن، وأن عليه ان يشتري تذكرة ويسافر!!
ذهب أخي إلى مخفر الشرطة في حي "عين البنيان" بالعاصمة الجزائرية وسلَّم نفسه للضابط هناك، والذي بدوره سأله مستغرباً: ماذا بك؛ فأجابه أخي خالد: أنا مناضل فلسطيني هربت من سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهم يطاردونني الآن، ولقد لجأت إلى مصر ولكنها طردتني، وأنا هنا جاهز لتكون الجزائر البلد الثالث الذي يطردني.. فقط أريدكم أن تبحثوا لي عن بلد عربي أذهب إليه. نظر الضابط في وجهه متأثراً، وقال له بعزة الجزائري ونخوته وفخره بالمقاومة الفلسطينية: "روح يا وليدي.. البلد بلدك، ما شفتني وما شفتك".
ملف الأسرى: الشغل الشاغل
لم ينس عز الدين إخوانه المناضلين خلف الأسوار، فكان قراره أن يعيش قضيتهم وأن يعمل من أجلهم، وقد نجح في مهمته في تظهير مآسي المعتقلين في السجون الإسرائيلية، من خلال النشرات والملاحق التي حملت معظم صفحاتها وأخبارها الصحف الجزائرية. يعتبر أخي عز الدين اليوم هو مسؤول ملف الأسرى في السفارة الفلسطينية بالجزائر، وهو أحد أبرز الإعلاميين المدافعين عن قضية الأسرى والمعتقلين، فهو - وبشهادة كل من عرفوه - من تبنى قضيتهم، ويناضل بكل قوة من أجل الدفاع عنهم، ويقضي ساعات طويلة من يومه متابعاً لقضاياهم، وهو من جعل قضية الأسرى دائمة الحضور وبقوة وعلى نطاق واسع في الجزائر الشقيقة، ليقدم لنا نموذجاً رائعاً في الإعلام الخارجي المساند والداعم لقضية الأسرى، بمساهمة بعض إخوانه من الفلسطينيين في الداخل والخارج، ومساعدة عددٍ من أصدقائه الإعلاميين الجزائريين.
بعد أوسلو: حلم العودة ما زال قائماً
بعد توقيع اتفاق أوسلو وعودة السلطة إلى قطاع غزة، انفرجت الأجواء السياسية وانفتحت جزئياً بوابات الوطن لعودة الكثير من الفلسطينيين في الخارج. جاء خالد (عز الدين) إلى قطاع غزة، وسعدت بعودته واللقاء به مع الأهل على أرض الوطن، ولكنها كانت زيارات عابرة لا تبل الشوق والصدى، وهو ما يزال يحلم بعودته الكبرى إلى أرض الآباء والأجداد، وإلى مدارج الصبا وملاعب الطفولة وساحات الجهاد في فلسطين.
حاول جهده خلال الأصدقاء من المسئولين الكبار في السلطة الفلسطينية، إلا أن كل الجهود باءت بالفشل، فقد تمَّ رفض طلبه بالعودة إلى أرض الوطن من قبل الأمن الصهيوني لأسباب تتعلق بتاريخه في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي.
وفي ظل هذه الظروف والضغوط النفسية، قرر خالد الالتحاق بصفوف منظمة التحرير، وأصبح دبلوماسياً يعمل في صفوفها.
لقد توفي والده (أبو أحمد) ولم يتمكن حتى أن يقول له وداعاً أو إلى لقاء في الرحاب الطاهرة في عليين، وكذلك توفيت والدته، واستشهد أخوه أشرف (أبو محمود) وهو بعيد عن أرض الوطن.
مضت كل هذه السنين، وما تزال أقدامه بعيدة عن وطنه، وحنينه أبداً يتعاظم اليه، وينبت الشيب في رأسه ويكبر أولاده من حواليه، وعيونه أبداً قبلتها وطنه الحبيب والشاطئ الحزين الممتد على مسافة الرؤية من حيفا الى رفح.
متى العودة إلى الأرض المباركة بالتاريخ والحضارة؟ سؤال يدور في خلد كل فلسطيني في المهاجر والشتات.
وسيبقى "متى العودة؟" والشهادة على أرض الوطن هو السؤال الذي يراود أخي عز الدين وذريته من بعده، وسيبقى الحلم والأمل لكل فلسطيني أن تكتحل عيناه بمشاهدة أرض التين والزيتون والمسجد الأقصى محررة من كل الغزاة.. وسيظل نداء الأجيال من أبناء هذا الوطن في الغربة والشتات: يا خيل الله اركبي.. ولحن الحادي يجلجل: إلى فلسطين خذوني معكم.
واليوم يتابع خالد (عز الدين) وأسرته مسيرات العودة على طول حدود قطاع غزة، كما يشاهد قوافل الشهداء والضحايا عبر الفضائيات، بعيون يملؤها الدمع والأمل.. ويتذكر حكم الزمان: "ولا يبني الممالك كالضحايا"، ويردد مع على محمود طه: "أخي جاوز الظالمون المدى، فحق الجهاد وحق الفدا، أنتركهم يغصبون العروبة، مجد الأبوة والسؤددا".
وسيبقى عز الدين يتمتم بكلمات ابن غزة وشاعرها البار هارون هاشم رشيد: يــا قــدس إنَّـا قادمـــون.. إنـَّـا قادمون.. سنرجعُ غزةَ مهما غيابٌ يطول، سنرجع مهما طال انتظار!! سنرجِعُ رفحَ البطولةِ عِزَّ الرجال، سنرجِعُ نصنعُ نصراً بإكليلِ غار!!
بقلم/ د. أحمد يوسف