اذن يغادرنا المبدع غاضبا ونتخلى عنه ونحتفظ بالمتخلفين عن ركب الابداع مما يعني اننا نحتفظ لأنفسنا بالتخلف ونهدي لأعدائنا او للغير على احسن تقدير كل مبدع وفاعل وقادر على الانتقال بذاته ومن حوله ولو بعض خطوة الى الامام فتجمع امريكا وأوروبا كل المبدعين وتقدم لهم كل المحفزات للإبداع والابتكار والانتقال الى الامام وهم معا يشكلون آلة تفريخ جماعية للإبداع لا يفوقه احد من البلدان التي تنكرت لأبنائها فتنكروا لها فالباقين على ارضهم هم العاجزين والمقهورين وقليلي الحيلة غير القادرين على الانتقال الى اي بديل للواقع الذي يعيشونه وبالتالي فان الفقر والجهل ينتج عادة التخلف الذي ينتج بدوره الديكتاتورية والحكم الاستبدادي المطلق فالأساس اذن في الوصول الى حالة التخلف يأتي من كبت الحريات ومنع الابداع والابتكار والتخلص من اولئك القادرين على فعل ذلك والإبقاء على اولئك القابلين بالخنوع والخضوع وتعظيم دورهم وتسليمهم مقاليد الحكم والإدارة لا لكفاءتهم وإنما لاستعدادهم المطلق في طاعة وتنفيذ وتنفيذ ارادة الديكتاتور وبطانته وهو ما يقود الى الاغراق في التخلف فحين تضع مسئولا جاهلا فتأكد انك ستجد مؤسسة من الجهلة فالمسئول الجاهل والمتخلف وغير المؤهل سيأتي لإدارة مؤسسته بمن هم اكثر منه جهلا وتخلفا وفسادا حتى يستطيع ان يسيطر عليهم.
التخلف اذن ظاهرة اصيلة في المجتمع العربي الذي قبل اولا بالتنازل عن الافضل من ابنائه لصالح غيره مع مواصلة اعتقاده الخاطئ بأنه الافضل ورفضه للتعاطي مع كل ما هو ايجابي لدى غيره وعزل نفسه عن ما حوله رافضا التأثر وفاقدا للقدرة على التأثير وهذا كما اسلفنا جاء في الاساس من القبول بتسلط الحاكم والتوقف عن البحث عن بدائل والحاكم هنا ليس فقط الرئيس او الملك او الامير بل كل حاكم بدءا من رب الاسرة مرورا برب العمل وانتهاء برأس الدولة مما يعني ان الادوار المتتالية التي يمر بها المواطن العربي منذ طفولته قائم على التعمية والارضاخ فالأب لا يقبل النقاش من الزوجة والأبناء والابن لا يقبل النقاش من الاخوات والأم والمدير لا يقبل النقاش من المعلمين او الموظفين الاقل درجة وهكذا اذن نجد ان الجميع يخضع للارضاخ ويقبل بالتسلط كنمط حياة فالحاكم اليوم كان خاضعا امس سواء في بيته او مدرسته وحتى خارج هذا النظام فان النظام العشائري ايضا يعطي السلطة للعشيرة الاكبر ويجعل العشائر الاصغر خاضعة.
وجود حاكم على راس السلطة يملك شخصية العربي المقموعة سيجعل منه نفسه قابلا للخنوع للأجنبي او المستعمر ويتحول تلقائيا الى اداة وألعوبة بيد المستعمر الخارجي ينفذ اوامره ومشاريعه على حساب نفسه وشعبه شاعرا بالدونية تجاه الاقوى وكل ما هو اقوى فهو نفسه تربى على الخنوع منذ ولادته وتعلم الخنوع للأب الخانع والمدير الخانع بمعنى ان سلسلة الخنوع اصيلة ومتجذرة ولن يغفر للغارقين بالخنوع جد قديم عظيم هناك او غيره.
حالة التخلف العربي قائمة اذن على نظام القهر والتسلط وبنظام دائري تتحرك خيوطه من خارجه فمكوناته جميعا قابلة بالخنوع والرضوخ للتسلط وصاحبه ايا كان فالكل خانع لغيره ويمارس التسلط على غيره في الاسرة والعمل والشارع والنظام السياسي والاقتصادي برمته وعادة ما تفرز حالة التخلف هذه حالة الاحباط وتولد القناعة بانعدام القدرة على الانعتاق حد رفض هذا الانعتاق والبحث عن متسلط جديد لا نظام جديد وبنية جديدة, وتجربة ما يسمى بالربيع العربي والتي جاءت على شكل سعي تدميري للذات لا سعي للثورة بمعناها الشامل ولذا لم تأت ثورات الربيع هذا بأي تغيير جذري حقيقي فلم يتغير شيء لسبب بسيط ان لا برنامج جماعي للثورة ولا ادوات منظمة مستقلة مالكة لمشروع سياسي اجتماعي اقتصادي وقد ساد شعار ارحل على كل ثورات الربيع العربي وكان الهدف فقط هو استبدال الكرباج بكرباج والحاكم المتسلط بآخر مما وصل بالحال حد التدمير الذاتي في دول مثل ليبيا واليمن وجعل من طالبي التغيير ادوات خائنة مدمرة لبلادها بيد المتسلط الاجنبي كما هو الحال في العراق وسوريا.
نظام التسلط اذن في المجتمع العربي نظام دائري ومعقد فالكل متسلط والكل خاضع للتسلط ففي الاسرة الاب متسلط على الجميع وفي غيابه تتسلط الام على بناتها والذكور الصغار والأخ الاكبر يتسلط على الجميع وهذا ينتقل بنا كما اشرنا الى خارج الاسرة لتتواصل حالة التسلط والخنوع القائمة على الانانية الفردية القائمة على ابتكار حالة تسلط خاصة بالذات للتقليل من أثر حالة التسلط الممارسة عليه عبر تقليدها أو الامعان بزيادتها أكثر فأكثر على من هم ادنى منه قوة اجتماعية او اقتصادية او سياسية او حتى جسدية ولكي يبرر لذاته قبوله بالتسلط الواقع عليه تجده يخترع لذاته اسبابا ومبررات نظرية وعملية فهو يهرب مثلا الى الماضي ليمسك بأي حكاية مضيئة في تاريخه حتى لو شكلت النموذج الاكثر تخلفا مقارنة بالواقع إلا انه يجعل من مكانتها في عصرها حالة خاصة به توحده مع المتسلط ويضع نفسه مع قاهره في سلة واحدة وطنية او قومية او دينية او حتى عشائرية بنظام ابوي لا فكاك منه وهذا يفرز ايضا ثقافة خنوع وفي احسن احوالها ثقافة اتقان التعبير عن الوجع فتجد معظم الاغاني العربية قائمة على الالم والحزن والشكوى واللوعة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لتتحول بذلك الثقافة الى مورفين يساعد المقهور على ادمان قهره حد عشقه والقبول به وعشق قاهره ولو في سره من باب الاعجاب به والرغبة في تقليده حيث امكن ذلك والاكتفاء بالغيبيات والشكوى واعتبار الدعاء مثلا اسقاطا لواجبه تجاه تحرير ذاته او بلده فالعرب هم اكثر الامم اتقانا للدعاء على الادعاء بدءا من اعداء الفرد وانتهاء بأعداء الوطن والأمة فالزوجة تدعو الله ان ينتقم من الزوج والزوج يدعو الله ان ينتقم له من مديره والآخر من رئيسه وصولا للحاكم الذي يدعو الله ان ينتقم له من المتسلطين عليه من الاعداء الخارجيين متمنيا ان يستجيب له الله فيصحو ذات يوم فلا يجدهم دون ان يفعل في سبيل ذلك شيئا على الاطلاق خشية بطش قاهره وسيده الذي يتحول طبعا الى مشغل ويتحول الحاكم الى شغيل لقهر لشعبه لصالح مشغله ونعود الى نفس الدائرة التي يتحكم بها الاجنبي بأصابعه من الخارج فيدوخ من يتحكمون بها منهكين خانعين وتجري كل الامور لصالحه بينما تتحول كل مكونات الدائرة وما يملكون الى دقيق لخبزه واذا فشل الفساد والخنوع او لم يتمكنا من الفرد لسبب علمه او قدراته فهو ينجو بنفسه بالانتساب الى امة اخرى حتى لو كانت امة معادية لامته التي تنكرت لعلمه وممتلكاته بحيث يبح لا يملك سواها ولا يجد بدا من بيعها لأولئك الاعداء مقابل الحرية والأمن والخبز التي افتقدها في وطنه الام.
حالة القهر والتخلف الناجمة عنها تولد الانانية والانزواء فكل مقهور يبحث عمن يحميه فيبدأ بالتقوقع على نفسه باحثا عن الجماعة الاقرب والأكثر شبها به فتكون الاسرة والعشيرة علما انه نفسه يمارس القمع بحق اعضاء هذه الجماعة وهو ما يفرقنا عن يرنا من الامم التي تتوحد بناء على المصلحة الجماعية فيتوحد الناس في نقابات وجمعيات كأشخاص متساوين بالقدرة والمصلحة فحين يتوحد العمال في نقابة ما مثلا فإنهم يتوحدون بنفس الصفة والمصلحة فجميعهم اذن لهم نفس المصلحة ويخضعون لنفس الظلم ولا احد فيهم يخضع لغيره بعكس العقد العشائري القائم ايضا على سلطة الاكبر والأقوى الذي يملك بنفسه لنفسه سن القوانين وتنفيذها في ان معا بدون حق الاعتراض لأعضاء هذه الجماعة وكذا بعكس العقد الطائفي او المذهبي القائم على تقديس صاحب المعرفة او المشرع او المفسر والذي يجعل من قناعاته قانونا ملزما ومقدسا للآخرين حد الوصول بهم الى تقديس شخصه.
يشترط لكي يستطيع التسلط أن يسود ويفرض نفسه توفر الجهل وغياب المعرفة وانعدام القدرة على الوصول اليها كما هو الحال في عصور الظلام لكن عالم ثورة الاتصالات واقتصاد المعرفة جعل من هذا الشرط غير قابل للتحقيق ووفرت الاختراعات العصرية ادوات للتواصل والوصول الى المعرفة يصعب السيطرة عليها وهو ما جعل حال المتخلف الخاضع الذي يمارس سلطاته على من هم اقل منه في حال يرثى لها فالأب الجاهل المحافظ الذي يمنع ابنته من النظر الى الرجال ولو من الشباك يترك بين يديها جهاز اتصال ينقلها الى اي مكان شاءت على وجه الارض صوتا وصورة كما ينقل لها ايضا كل جهات الارض وبالتالي فالذي يجري هو حالة من ازدواجية الشخصية او الانفصام بحيث يتشكل لدينا شخص علني يتناقض كليا مع الشخص الكامن في داخله فهو في العلن ملزم على تقديم نفسه كما تريدها جماعته ويفعل غيره نفس الشيء وفي الخفاء يكون كما يريد بمعنى تناقض حاد بين السلوك العلني والقناعات الكامنة والسلوك في الخفاء بحيث يتشكل لدينا مجتمع قائم على الكذب بكل شيء وبكل ما تعني الكلمة من معنى وحين يصبح الجميع مقتنعين بكذب الجميع والجميع يمارس ما يخالف قناعاتهم بما يصل احيانا ان يتناقش اثنان فيما بينهم بما هو صحيح وينقدون ما هو قائم ثم حين يغادرون مجلسهم يقبلون من بعضهم السلوك المخالف لما اعلنوه لبعضهم معا بما يعني الشرعنة المطلقة للذات والآخرين لممارسة الكذب علنا في كل شيء.
التسلط والتخلف والقهر الناجمان عن بعضهما يقودان اذن الجميع الى العودة الى الذات الاقرب والتي قد تكون الاسرة او العشيرة او الطائفة بهدف تحقيق اقصى امان ذاتي ممكن وأقصى مصلحة ذاتية ممكنة وبالتالي فأنت ستهرب من سطوة الحاكم الى سطوة العشيرة او الطائفة او سطوة الاقوى في العشيرة او الطائفة والذي بدوره سيتحول الى سيف اخر على رقبتك لتحقيق مصالحه ومصالح الاقرب اليه وهكذا ندور في دوامة لا نهاية لها ابدا.
التخلف والجهل والفقر والخضوع يفرخون امراض كثيرة وغير محدودة كمرض التبعية للأقوى او الاعلى او الاكثر معرفة او الاكثر بطشا محليا كان ام خارجيا بما يجعل المقموع مريضا بكل اشكال الامراض الاجتماعية ويجعله دائم البحث عن ما يخرجه من الحالة الدونية التي يعيشها فإما ان ينزوي بعيدا بما يجعل منه غير ذي صلة بأي شيء او يقبل بان يصبح اداة الاقوى الاشد على ابناء جلدته او يسعى للظهور بالتباهي الكاذب بالمظاهر المدمرة لصاحبها ومجتمعه فمثلا ظهور ظاهرة التبذير والإسراف في المظاهر الاجتماعية كالمأكل والملبس بحيث يجري هدر جزء كبير من الثروة الوطنية للبلد وناسها على مظاهر كاذبة لا تغني ولا تسمن من جوع.
حالة التخلف والدونية التي يعيشها الفرد او المجتمع ستدفع به الى ايجاد شماعة ليعلق عليها سكوته وضعفه والأسباب التي اوصلته الى ما هو عليه فتجد العلماني يتهم الديني والديني يتهم العلماني والعشائري يتهم المدني " صاحب فكرة الدولة المدنية " والمدني يتهم العشائري والطائفي يتهم الطائفة الاخرى والمتزمت يتهم المفرط والديمقراطي يتهم العنصري بما يعني اتهامات واتهامات للذات الاخرى تصل حد تقديس الذات الانا بحيث يصبح كل ما عدا أناك مجرم وتصبح مهمتك انقاذ أناك الفردية ايا كانت الاضرار التي ستلحق بأي اخرين ايا كانوا وحين تسود فردية الانا الذاتية تصبح الانا الجماعية في عداد الموتى ويستطيع الجهل والعصبية ان يفعلا فعلهما في الوصول لحالة القبول والخنوع للقهر والتسلط ايا كانت الجهة التي تمارسهما.
التسلط والتخلف يمنعان الشعوب من كل اشكال الابتكار والإبداع وكذا التخطيط الواعي المدرك والقدرة على الاستثمار والتطوير والتنمية ويغرق المجتمع بتخبط بكل شي فمن اقتصاد المنزل البسيط الذي يصرف مثلا في رمضان اضعافا مضاعفة عن حاجته فيشتري مثلا كيلوا غرام من اللحم لشخصين كل الانظمة الصحية تقول ان 160 غرام على ابعد تقدير هو ما يحتاجانه معا ثم يأكلانه ضررا او يلقيان بما يتبقى في حاوية النفايات في حين يشتري الغربي اللحم بالغرامات والفواكه في الحبة او اجزاء الحبة كما هو الحال مع البطيخ فيأكل ما يكفيه ويوجه باقي نقوده لما هو مفيد في حين يصرف العرب على بطونهم ناي اكل الاخضر واليابس ولا يعرفون شيئا عن القراءة ولا البحث العلمي ولا التطوير ولا التأهيل المهني والتقني فيبقى المهني فاشلا فيعمل في التجارة ما لا يعرف شيئا عنها إلا من اشتعل عند تاجر اخر فينشغل بالغش قبل ان ينشغل بالنجاح ثم يبني بيتا يتسع للعشرات فلا يستطيع القيام بواجباته فيتحول الى سجن وبيت للأشباح وسيارات قبل ان يهتم بتطوير صناعته او تجارته بل يتحول الى فهلوي ولص وغشاش لتحقيق الربح بسبب جهله واستعرضيته التي تغطي دونيته كما يعتقد وهذا ايضا ينسحب على المؤسسة والحكم فلا خطط ولا مهام ولا تطوير بحيث تصبح السلطة مصدرا للثروة عبر النهب والتخريب في حين ان الثروة هي مصدر السلطة عند الامم التي تحترم ذاتها وتعيش بنظام مدني ديمقراطي قائم على قوانين المواطنة والدولة المدنية ودولة المؤسسات لا دولة " حارة كل من ايده اله " بحيث نسفلت شارع اليوم نحفره غدا ونبني دورا للعبادة طمعا في العفو الالهي عن الجرائم ولا نكترث ببناء مدرسة واحدة لتعليم ابناءنا وبناتنا فقد تجد في قرية صغيرة عدد مساجد يزورها عدد قليل من المصلين مع ان الصلاة جائزة حتى في الشارع واكتظاظ شديد في المدارس او مدارس بدون مكتبات ولا مختبرات ولا وسائل تعليمية ولا ظروف صحية وتجد شوارع تباهي اوروبا في العاصمة مقابل طرق مدمرة في الضواحي والأماكن النائية وهذا ايضا ينتج مواطن عالة يريد من الدولة ان تطعمه وتسقيه ولا يريد ان يعمل ... يريد من الدولة ان تقيم له الشوارع والمدارس والمستشفيات دون ان يشارك إلا بسرقة مستحقات الدولة من ضرائب ورسوم وغيرها وهو يبرر سرقته بفساد الجميع وان ما سيدفعه ستتم سرقته من الحاكمين وهو قطعا اضعف من ان يدفع ثم يسعى لمراقبة امواله التي يدفعها مطالبا بحقوقه وحتى نواب الشعب المنتخبين يتحولون فورا الى ممثلين للسلطان لا للشعب ويسائلون الشعب لصالح السلطان وليس العكس ويهتمون برواتبهم وامتيازاتهم التي يسرف بمنحها لهم السلطان لإفسادهم ويتحولون عالة على الشعب لا اداته لتقويم السلطة والسلطان.
بقلم/ عدنان الصباح