ورشة البحرين: وَهْمُ مقايضة الحقوق ببعض الأموال

بقلم: هاني المصري

تأتي ورشة البحرين في سياق صفقة القرن التي يتم فرضها على الأرض من خلال خلق المزيد من الحقائق الاستعمارية الاستطانية العنصرية الاحتلالية الرامية إلى جعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن والمطروح عملياً.

لم يرتكب الفلسطينيون خطأ، ولم يتسرعوا عندما رفضوا الخطة الأمريكية التي تسمى "صفقة ترمب" قبل عرضها بصورة رسمية، لأن "المكتوب يُقرأ من عنوانه"، فالخطة ترمي إلى تصفية القضية لا إلى التوصل إلى تسوية حولها، بدليل أنها ابتدأت بالقرار الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإغلاق القنصلية الأمريكية القائمة بالقدس منذ عام 1844، فضلاً عن الدعوة إلى حل وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، ووقف المساعدات الأمريكية لها، والمطالبة بتغيير تعريف اللاجئ ليُحصَر عدد اللاجئين بالذين وُلدوا في فلسطين قبل عام 1948، على أن يتم توطين اللاجئين في أماكن لجوئهم، وتشجيع لجوئهم إلى أماكن جديدة.

يضاف إلى ذلك تشريع الاستيطان، وتشجيع المضيّ به وتوسيعه، وتبنِّي الرواية الصهيونية للصراع، ووقف المساعدات للسلطة الفلسطينية، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ورفض قيام الدولة الفلسطينية، وجعل الأمن الإسرائيلي والواقع الذي أقامته إسرائيل، بعد 71 عاماً على قيامها و 52 عاماً على احتلالها لأراضي 1967، هو المرجعية للمفاوضات والحل، على حساب القضية والحقوق الفلسطينية، وعلى أنقاض القانون الدولي والشرعية الدولية.

تأسيساً على ما سبق، فإن ما تهدف إليه الخطة الأمريكية هو تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها، عبر الفرض والقوة والخطوات الأحادية من جانب واحد، من أجل فرض الحل الإسرائيلي من دون تفاوض، وهذا مختلف عما أرادته الإدارات الأمريكية السابقة التي اعتمدت سياسة إدارة الصراع، والسعي بين فترة والأخرى للتوصل إلى تسوية من خلال طرح خطط أمريكية أو تأييد أفكار وخطط، وإن تكن منحازة بشكل واضح جدّاً لإسرائيل، ولكن عن طريق التفاوض، مع الإبقاء على المرجعيات الدولية ولو كإحدى المرجعيات المعتمدة.

في هذا السياق، ندرك أن "صفقة ترمب" ليست مجرد كسر وتغيير لقواعد اللعبة السابقة، أو خروجاً من الصندوق، بل تغيير اللعبة كلياً، وتحطيم الصندوق بالكامل لصالح طرف واحد من دون أخذ مصالح الطرف الآخر ومطالبه وحقوقه بالحسبان.

ولعلّ هذا التطرُّف الشديد هو نقطة ضعفها القاتلة التي ستساعد على إفشالها، وهو الذي يفسِّر الإجماع الفلسطيني على رفضها، الذي لا يقتصر على رفض الرئيس محمود عباس وقيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، بل يشمل رفض حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وقوى وفاعليات المجتمع المدني، والقطاع الخاص الذي تَجلَّى موقفه من خلال رفضه حضور ورشة البحرين، التي تم التعامل معها مثل الذي يريد أن يجمّل ويقلم أظافر المرأة خلال خنقها.

أجَّلَت إدارة ترمب طرح الخطة مرات عدة، لضمان نضج الظروف المناسبة لتمريرها، لا سيما قبول الدول العربية، تحديداً الخليجية بها، بحجج مختلفة، أهمها ضرورة إجراء التعديلات عليها لتعزيز فرص نجاحها، وإجراء الانتخابات الإسرائيلية استجابةً لطلبٍ من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يخشى من أن يقلِّل طرح الخطة قبل الانتخابات فرصه بالفوز، جَرَّاء معارضة بعض الأحزاب الدينية واليمينيّة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً التي تريد ضم الضفة إلى إسرائيل تحقيقاً للحلم الإسرائيلي بإقامة "إسرائيل الكبرى".

وها هو ذا القدر يخرج لسانه ساخراً من ترمب وصحبه وصفقته حين قررت الكنيست الإسرائيلية حلّ نفسها، نتيجة عجز نتنياهو عن تشكيل حكومة جديدة، وعدم إمكانية نجاح شخص آخر في تشكيلها، ما يعني تأجيلاً جديداً لطرح الخطة لأشهر أخرى، رغم الإعلان عن طرح شقها الاقتصادي وتأجيل شقها السياسي الذي من الصعب جداً بيعه، من خلال ورشة ستُعقد في البحرين أواخر يونيو/حزيران 2019. وهذا يطرح علامة استفهام حول الاستمرار في عقدها أم تأجيلها لما بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة.

تكمن خطورة ورشة البحرين في أنها ستُعقَد في عاصمة عربية، وسط حضور عربي إسرائيلي أمريكي وغياب الفلسطينيين، ما ينذر ببداية التخلي عن منظمة التحرير كممثلة للفلسطينيين، ما قد يفتح عهداً جديداً من الوصاية العربية على الفلسطينيين، مع أن هذا أمر صعب وغير مرجَّح، خصوصا أنها تريد مقايضة الحقوق الفلسطينية بتحسين حياة الفلسطينيين، مع استمرار عيشهم تحت الاحتلال.

فالمطروح عليهم حكم ذاتي، تحت السيادة الإسرائيلية من النهر إلى البحر، يمكن أن يسمى "فلسطين الجديدة" وفق إحدى النسخ المسربة عن الخطة الأمريكية التي نشرتها صحيفة "إسرائيل اليوم" نقلاً عن وزارة الخارجية الإسرائيلية.

وهنا، يجب التحذير من الخداع الذي يظهر بالاستعداد لتقديم عشرات ومئات المليارات لتمويل صفقة فرص نجاحها مشكوك فيها، ولا أحد مستعد فعلاً لتقديم هذه المبالغ، ما يجعل تداولها ليس أكثر من تضليل يهدف إلى إغراء المستهدفين لقبولها. فلا تنمية ولا ازدهار يمكن أن يتحقق، وإنما تمويل لاستمرار الاحتلال يهدف إلى تحسين الحياة تحته بوهم إزالته.

أي إن المطلوب من الحضور في ورشة البحرين المساهمة بتصفية القضية الفلسطينية خصوصاً قضية اللاجئين، أساس وجوهر القضية الفلسطينية، وبتمويل استمرار الاحتلال للإيحاء بحل القضية الفلسطينية، تحقيقاً لإقامة الشرق الأوسط الجديد الذي سعت له إدارات أمريكية سابقة عدة، بخاصة إدارة جورج بوش الابن.

وتحلم إدارة ترمب بتحقيق هذا المشروع لضمان استمرار السيطرة الأمريكية الإسرائيلية على هذه المنطقة الحيوية الاستراتيجية، خصوصاً بعد الاكتشافات الهائلة من الغاز، وبعد فشل أمريكا في استخراج النفط الصخري الذي أثبتت التجارب عدم جدوى إنتاجه اقتصادياً، بعد أن كلّف الخزينة الأمريكية حتى الآن نحو 400 مليار دولار.

يضاف إلى ما سبق أن الحاجة إلى إزالة القضية الفلسطينية من الطريق أصبحت أكثر إلحاحاً لتسهيل إقامة الحلف "العربي الأمريكي الإسرائيلي"، الذي يشرعن التطبيع العربي الإسرائيلي قبل حل الصراع، ومن دون الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، كما تنصّ مبادرة السلام العربية. ويقال إن هذا الحلف موجه ضدّ الخطر الإيراني، ولكنه يستهدف في الحقيقة الحد من تقدُّم روسيا والصين وأوروبا، ومن تقدُّم تركيا وإيران، إذ يسير العالم بشكل حثيث نحو تعددية قطبية عالمية وتعددية إقليمية تحاول إدارة ترامب وقفها بكل الوسائل.

لذلك، إذا عُقدت ورشة البحرين أو أُجّلت، وإذا عُرضت "صفقة ترامب" أو أُجّلت مرة أخرى، فإن محاولات تطبيقها على الأرض جارية على قدم وساق، من خلال خلق المزيد من الحقائق الاستعمارية الاستطانية العنصرية الاحتلالية الرامية إلى جعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن والمطروح عملياً.

فاليمين الديني والسياسي الإسرائيلي والأمريكي يعتقد ويتصرف على أساس أن لديه فرصة تاريخية في ظل إدارة ترامب يريد أن يستغلها لأقصى حد ممكن، لاستكمال تحقيق أهداف الحركة الصهيونية، خصوصاً أنها قد لا تتكرر، وقد تكون قصيرة إذا لم ينجح ترامب في فترة رئاسية ثانية.

لذا سيوظَّف الرفض الفلسطيني، إذا طُرحت الخطة أو لم تُطرح، لتبرير اتخاذ المزيد من الخطوات من جانب واحد، يمكن أن تصل إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية، خصوصاً المقام عليها المستوطنات، كما يستخدم تأجيل طرح الخطة لحرف الأنظار عما يجري على أرض الواقع من فرض وقائع جديدة يراد لها أن تكون المرجعية لأي حلّ.

ما العمل إزاء هذه التحديات والمخاطر الجسيمة غير المسبوقة؟ فلا يكفي رفض الخطة الأمريكية الإسرائيلية، وهناك إمكانية جدية لإحباطها، وهذا بحاجة إلى مقال آخر.

 

بقلم: هاني المصري 

 

المصدر: بقلم: هاني المصري -