كنت لم أكمل الشهر الأول لي في الصف الثالث الابتدائي (تلك التسمية الأجمل من الحالية، وهي بالمناسبة ما تزال خالدة في الوجدان وإن شاء الله تعود) أواخر أيلول من عام 1971. أحضر شقيقي الأكبر جريدة القدس حيث كان معتادا على ذلك، وكانت "القدس" يومها أكثر عمقا وأكثر جرأة وأقل ورقا وأقل إعلانات منها اليوم.
احتوى ذاك العدد أواخر ذاك الأيلول غير الأسود (أيلول الأسود كان أيلول 1970 يوم حصلت الفتنة بين شعبين شقيقين بسبب سوء تصرفات الطرفين وعدم ارتقائهما إلى أدنى مستويات المسؤولية وحقن الدماء) على قصيدة للشاعر المقدسي الرائع أحمد عبد أحمد عنوانها على ما أذكر، وإن لم تخني ذاكرتي، "تقرير إلى عبد الناصر في الذكرى الأولى لرحيله".
وعبد الناصر هذا هو جمال عبد الناصر الذي قاد ما يسميها مريدوه وكثيرون ثورة 23 يوليو 1952 أو ما يسميه غير أشياعه وكثيرون انقلابا، وتبقى الكلمة الفصل للمؤرخين الأكفياء والمنصفين والمدققين. وكان ناصر رحمه الله قد هلك يوم الاثنين 28 أيلول 1970.
وجاء الشاعر أحمد عبد أحمد ليدبج لناصر على شكل قصيدة في ذكراه السنوية الأولى تقريرا يسرد فيه أحوال الوطن العربي شعرا، فلم يترك بقعة من بقاع الوطن العربي إلا ووصف ما دار بها في عام أو ما يدور بها في تلك الأيام. وجاء الشاعر على ذكر السودان الذي كان يمور بأحداث جسام تلت القضاء على انقلاب هاشم العطا في 19 تموز 1971 بخيانة قذافية. ومما قاله:
"شمس الخرطوم تغيب عن الشرفات
القتلى بالعشرات "
تذكرت هذين السطرين وأنا أستمع وأشاهد البث المتواصل للجزيرة الغراء (والتي أغلق مكاتبها العسكر الخائن في السودان مؤخرا بأوامر لا شك سيساوية تمهيدا لما جرى صباح اليوم، الاثنين، من اعتداء على الشعب وفض لاعتصام قرب القيادة العامة لما يسمى الجيش السوداني المدجن كسائر الجيوش العربية.
حتى اللحظة يتم الحديث عن 26 قتيلا أو شهيدا بنيران جيشهم "الوطني" الذي فشل في الحفاظ على وحدة السودان، فانسلخ ثلثه حفاظا على حاكم طاغية فاسد جاهل. كان واضحا لكل ذي عينين مفتوحتين أن العسكر, ولا سيما ذاك التافه حميدتي والقادم من ميليشيات الجنجويد الذي لا يتقن العربية، ولا سيما نطقها, يعدون لمجزرة على غرار ما قام به سيسي مصر وعسكره وقضاته وإعلامه.
زار حميدتي محمد بن سلمان وأخذ منه من الدعم ما أخذ، وزار الإمارات ملتقيا مخربها وزار عسكري آخر هو عبد الفتاح البرهان سيسي مصر مؤديا له تحية عسكرية بكل مذلة وهوان. وحضر الفريق البرهان قمتي مكة ونال من العظات والدعم ما جعله يسرع وعرصاته الهجوم على الناس في أواخر رمضان، ومهدوا لذلك، شأنهم شأن كل طاغية بإغلاق قناة الجزيرة كونها القناة الكاشفة والمنحازة دوما للشعوب المقهورة، وهي مرحلة، كما بينت في مقال سابق، تعتبر مرحلة متقدمة في مراحل قمع أي ربيع عربي زاه يقوم. ومهدوا لذلك بإطلاق الاشاعات أن "مندسين" دخلوا بين الناس، وأن هناك خطرا على المعتصمين، وما الخطر إلا من العسكر ذاتهم
واليوم قام العسكر الخائن بالهجوم على الناس وصار "الجرحى والقتلى والمضروبون شبابا ورجالا وكهولا ونساء والمساء إليهم" بالعشرات تماما كما كانت الصورة أوائل خريف 1971، أي قبل 48 سنة بالتمام والكمال.
ولكن شعب السودان شعب متدين وشعب قارئ وشعب واع وشعب وطني بالفطرة، وسوف يتمكن، إن شاء الله، من كنس هذه الطغمة العسكرية الفاسدة المنتنة والعميلة وغير الوطنية التي تنفذ توجيهات ابن سلمان وابن زايد وابن السيس.
وقوى الحرية تعلن الآن أنها ستقدم عرصات الطغمة العسكرية إلى محاكمات في سودان حر ونظيف قادم لا محالة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، كنا نتمنى أن يرتقي العسكر لمستوى الفريق سوار الذهب رحمه الله يوم اجتث نظام نميري أوائل نيسان 1985 وحافظ على البلاد وسلم السلطة للمدنيين بعد عام بالضبط دون زيادة يوم واحد, لكن العسكر الحاليين اختاروا نهج السيسي بالتصدي لإرادة الشعب وإزهاق الأرواح، وإن شاء الله تكون إرادة الله في تطهير السودان منهم.
حمى الله السودان ورد ثلثه المسلوخ ورحم الله الشهداء وحفظ الله الشعب السوداني الطيب.
فازع دراوشة/ فلسطين