الأيام العشر الأخيره في رمضان كانت حافله عربيا وإسلاميا، دينيا يتزايد الإعتكاف والعباده خاصة أن الكل الإسلامي يُجمع على أن ليلة القدر جاءت خلالها، ولكن ما ميّزها في رمضان 1440 هجري (2019 ميلادي) مسألتان: الأولى القمم الخليجيه والعربيه والإسلاميه في مكه، والثانيه عيد الفطر.
في الأولى كان الأمن القومي العربي العنوانحيث صدرت قرارات ضد عدو جديد إسمه "إيران" مع تجاهل للقضيه الفلسطينيه ما عدا في القمه الإسلاميه حيث طالب الوفد الفلسطيني بوضع قرارات تؤكد على الموقف الثابت بما يتعلق بها والمطالب بحق تقرير المصير والدولة الفلسطينيه وعاصمتها القدس، ولكن في الثانيه ظهرت الحقيقه تجاه الأمن القومي العربي، فإنقسم العرب والمسلمين وجاء الهلال عند البعض مساء الإثنين (رغم أن هناك إجماع من علماء الفلك على عدم إمكانية رؤيته)، في حين كانت الأغلبيه كعدد سكان (فوق المليار) مع الحقيقه العلميه حيث جاء العيد يوم الأربعاء 5-6-2019 وفقا لرؤيا الهلال مساء الثلاثاء حيث يمكن رؤيته.
لماذا كل ذلك؟ وماذا حدث؟
المسألة مرتبطه بالأساس بأكثر من قرن من الزمان وفرض "سايكس-بيكو" كأمر واقع، ولكن التخبط الحقيقي وضياع مفهوم الأمن القومي العربي بدأ من سياسة التجييش ضد السوفيت في أفغانستان وأصبح أكثر وضوحا في غزو العراق وإحتلاله الكويت بعد حرب طاحنه بينه وبين إيران "لحظتها كانت الحرب بين الفرس والعرب"، بسرعة البرق حدث تحالف غربي-عربي تزعمته أمريكا وتم إخراج العراق من الكويت بالقوة، وحتى هذه اللحظه كان بالإمكان إصلاح الوضع وإعادة تقييم ما حدث وإحداث مصالحات تُجنبنا كعرب ما حلّ بنا بعدها، لكن ما جرى لاحقا أثبت بأن مفهوم الأمن القومي ليس سوى مصالح مرتبطه بالحليف الأمريكي أكثر من كونها تعبير حقيقي عن مصالح الدول العربيه، فتمت محاصرة العراق وغزوه وإحتلاله من قبل الولايات المتحده، ليتم تسليمه على طبق من فضه ل "إيران".
مرة أخرى يُخطيء العربان التقدير، وتبدأ عملية دعم ماديه وبشريه للقاعده ويظهر الإرهابي "الزرقاوي" ليبدأ عمليات إرهابيه أصابت بمجملها الشعب العراقي من المذاهب والطوائف والقوميات المختلفه، في حين كانت إيران وسوريا تدعم فصائل مقاومة المحتل الأمريكي، وهنا تبدأ عملية الفرز بشكل واضح، ويستفحل البعض العربي في عناده ويستمر في خلق الفوضى في الداخل العراقي وتحت عنوان مقاومة النفوذ "الشيعي" الإيراني ودعما للحليف الأمريكي بالذات، مع العلم أنه كان بإمكان العرب وبالذات دول الخليج أن يكونوا اللاعب الفاعل في التقريب بين مختلف فئات الشعب العراقي حفاظا على وحدته وسيادته وتماسكه، ذهب العراق ولا يزال ولن يعود كسابق عهده بالمفهوم السابق بقدر ما سيعزز علاقته بالعدو الجديد المسمى "إيران".
لم تقف الأمور عند ذلك، بدأت عملية الشحن المذهبي والطائفي الذي تزعمته فضائيات "الجزيره" و "العربيه"، وبدأ يتبلور شكل سياسي جديد مُرتبط بأمريكا وأساسه تشكيل تحالف أمريكي-إخونجي تكون فيه "قطر وتركيا- أردوغان" العرابين لذلك، وفي نفس الوقت حملة إعلاميه شرسه للتفريق بين المذهب "السني والشيعي" إبتدأت بثوب جديد في "لبنان" بعد حادثة إغتيال "رفيق الحريري" وكانت موجهه ضد "سوريا" و"حزب الله" بالأساس وتحت عنوان محاربة النفوذ "الإيراني"، ورغم ذلك لم يستطيعوا تجميع غالبية أحزاب وفصائل السنه في مواجهة ما سموه المد الإيراني "الشيعي".
"إيران" ووفقا لسياستها بعيدة المدى وفي مواجهة الحصار الأمريكي، ردت بموقف ثابت تمثل في دعم كل من يقف في وجه أمريكا وإسرائيل، ودعمت جميع فصائل "السنه والشيعه" على إمتداد الوطن العربي ككل، وبذلك أحدثت شرخا كبيرا في الأمن القومي العربي لأنه وللأسف كان رد الدول العربيه بمفهوم قبائلي وثأري بعيداً حتى عن مصالحها الإستراتيجيه، فظهر الحكام العرب وبالذات السعوديه ودول الخليج كمتحالفين مع أمريكا وإسرائيل، وتركوا الساحه للاعب "الإيراني".
يأتي بعدها "الخريف العربي" وتبدأ الحقائق بالظهور بشكل واضح، وهنا يختلط الحابل بالنابل لدى دول مجلس التعاون الخليجي بالذات، فدولة "قطر" متحالفه مع "تركيا" تدعم بالمال والعتاد السياسه الأمريكيه بقوة من خلال دعمها لفصائل الإخوان المسلميين والتيارات الإسلاميه المتطرفه في مصر والعراق وليبيا وسوريا وتونس وغيرها من الدول العربيه، في حين يكون موقف المملكة العربيه السعوديه والإمارات مما حدث في "مصر" عقلاني وإستراتيجي وترفض الحلف الأمريكي- الإخونجي بقوة، لكنها في "ليبيا" تثأر من القذافي (الآن بدلت موقفها وتدعم الجيش الليبي)، وفي "سوريا" تتعامل مع الدولة السوريه وكأنها "إيرانيه" محضه يجب تدميرها وتدعم الإخوان المسلمين هناك وفي "العراق" تقف مع الفوضى وكأنها بذلك تنتقم من "إيران"، وفي "اليمن" بدل أن تحتضن جماعة "الحوثي وأنصار الله" تشن حرباً عليه وتؤدي لخلق تحالفات جديده في "اليمن" لن تكون لصالحها على المستوى البعيد، في حين لها موقف عقلاني في "تونس"، والمطلوب منها الآن بما يتعلق ب"السودان" أن تكون الحاضن للجيش والمعارضه وأن ترفض قمع الجيش للشعب والمعتصمين، وأن تعمل بقوة وعبر الجامعه العربيه لعقد مؤتمر للكل السوداني لوضع خارطة طريق للحل لسحب البساط من تحت أقدام تحالف "قطر وتركيا" بالأساس.
الأمن القومي العربي الذي هددته "داعش" و "القاعده" ومختلف الأسلمه السياسيه، والتي جُلّها متحالف مع أمريكا ومن صناعته، وقفت "إيران" في جبهة المقاتل والداعم لقتاله وتحالفت مع "روسيا" و "الصين" ضدهم، وحتى أنها نسقت ولا تزال مع "تركيا أردوغان" وفقا لمصالحها ودون أن تتنازل عن محاربة من أرسلهم "أردوغان"، وبقي موقفها ثابت بما يتعلق بالقضيه الفلسطينيه ورفضت ما يسمى ب "صفقة القرن" وورشة "البحرين" ودعمت كل الفصائل الفلسطينيه في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي، في حين بقي البعض العربي يفكر بالثأر وبنفس العقليه القبليه ولم يستطيع تجاوز عتبات "أمريكا" حتى أنه لم يناور بما يتعلق بالقضيه الفلسطينيه، وفضل أن يواجه "العدو" الإيراني على حساب مصالحه القوميه العربيه، وهنا مرة أخرى يقع في فخ الإبتزاز ويمارس سياسه لن يجني منها سوى خيبة وراء خيبه وعلى حساب المفهوم الإستراتيجي للأمن القومي العربي.
لا يزال هناك متسع من الوقت لإعادة تقييم شامله للموقف العربي، وبحيث يتم عمليا الإتفاق على:
أولا- مركزية القضية الفلسطينيه وأن لا سلام ولا تطبيع ولا علاقة مع المُحتل للأرض العربيه الفلسطينيه، وأن القدس العربيه خط أحمر لا تنازل عنها وكل الحلول المطروحه أمريكياً لا تقترب بالمطلق من هذه الثوابت، وهنا لا بدّ من إلغاء الحضور ل "ورشة البحرين"، ورفض صفقة القرن غير المعروفه علناً، إضافة إلى فرض الوحدة الفلسطينيه وفقا لجميع الإتفاقات السابقه وبحيث تكون الإنتخابات العامه الفلسطينيه عنوانها.
ثانيا- إعادة العلاقة مع الدولة السوريه والعمل على الحفاظ على وحدة الأراضي والسيادة السوريه كاملة وعدم إشتراطها بمدى علاقة سوريا ب "إيران"، ورفض التدخل التركي السافر وإحتلاله للأراضي السوريه.
ثالثا- تفعيل دور الجامعه العربيه لتقوم بدورها في جمع الشمل العربي في كافة الدولة الدائره فيها حروب أهليه، والبدء فوراً بالعمل لمنع إنجراف السودان لأتون الحرب الأهليه كما يحدث في بعض الدول العربيه.
رابعا- وقف الحرب المجنونه على اليمن عبر مبادره من جامعة الدول العربيه وبحيث تعمل على عقد مؤتمر حواري يمني-يمني يأخذ بعين الإعتبار مصالح جيرانها ويؤسس لنظام ديمقراطي في "اليمن" أساسه المواطنه وصندوق الإقتراع وحقوق الإنسان.
خامسا- التعامل مع دولة "إيران" على أنها جار دائم وتاريخي ومُستقبلي ورفض أي تدخلات من قبلها في الشؤون العربيه ومطالبتها بالإنسحاب من الأراضي الإماراتيه، من خلال تشكيل لجان حواريه عربيه-إيرانيه للوصول لصيغه للتعايش بين الجيران أساسها إحترام السياده والقانون.
ليست الحروب من يؤسس لأمن قومي عربي، ولا خلق أعداء جدد، ولا تحالف مجاني مع هذا أو ذاك، ولا خلاف على موعد عيد الفطر السعيد، فالأمن القومي العربي يبدأ ويتأسس فقط بحل القضيه الفلسطينيه لسحب الذرائع، وتأسيس علاقات عربيه-عربيه تشاركيه وإقتصاديه مبنيه على إحترام سيادة الدول وقطع يد أي دولة تدعم هذا الحزب أو ذاك، فالدعم يكون للدولة ووفق قوانينها وليس عبر تدميرها بإرسال الإرهابيين ودعم الحركات المتأسلمه التي عاثت فسادا في كل الدول العربيه.
ملاحظه: أعتذر للقاريء على إستخدامي مصطلحات "سنه" و "شيعه" و "حوثيين"،لأن هذه المصطلحات لا تؤسس لدولة المواطنه وهي عائق أمام مفهوم الأمن القومي العربي.
بقلم: فراس ياغي