كانت السنوات التي أعقبت نكبة عام 1948 وحتى نكسة حزيران 1967عصيبة على العرب عامة والفلسطينيين خاصة ، حيث شرد حينذاك ما يزيد عن المليون ونصف المليون فلسطيني من مدنهم وقراهم في فلسطين بسهولها وهضابها وصحرائها وأغوارها بعدما سلبت ممتلكاتهم ليأتي ترامب المتصهين وفريقه اليهودي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ليغير من قواعد اللعبة بتجريد الفلسطينيين من حقهم المشروع بإقامة دولتهم المستقلةعلى ثرى وطنهم الأبدي فلسطين وعاصمتهم القدس الشريف بالاعتراف بها عاصمة لليهود ومنحهم مشروعية الاستيطان في الضفة الغربية مع إلغاء حق العودة للاجئ الفلسطيني بمقابل صفقة اقتصادية فيها صك اعتراف وتمليك فلسطين لليهود.
فما بين النكبة والنكسة وقائع حصلت مليئة بالأحداث والمشاحنات والتناقضات العربية العربية والتماسك الصهيو غربي والسير نحو تحقيق الأهداف بخطى ثابتة، ما ميز تلك الفترة كثرة الانقلابات العسكرية التي طالت مصر والعراق وسوريا واليمن والاحتجاجات الشعبية تقودها أحزاب عقائدية وقومية ضد المشاريع الأمريكية عملت على إفشال الكثير منها ، خاصة الأحلاف التي كانت تسعى أمريكا لتكوينها كحلف السنتو في ظل الحرب الباردة بين الشرق والغرب تمثل في قوتين عظميين مشكلة من دول المعسكر الشرقي المتمثل في حلف وارسو الذي انتهى أمره إلى غير رجعة ، والناتو المسيطر عليه صهيو أمريكياً، والاغتيالات التي طالت شخصيات عربية كان لها ثقلها السياسي في حينه لست بوارد ذكرها هنا ، واختلاف الرؤى بين دول الجامعة العربية حول ملف القضية الفلسطينية وكيفية التعامل معها حيث كان ميزان الربح والخسارة بالنسبة للغالبية هو ما يتحكم بالموقف من الصراع على أرض فلسطين فكان هناك من يعتقد أنها قارب النجاة في الصمود أمام الرياح السياسية العاتية التي كانت تعصف في المنطقة ، فاعتمد عربياً وحتى إسلامياً التعامل مع ملف القضية الفلسطينية كقضية لاجئين لحين اعتماد القمة العربية الثانية التي انعقدت في الإسكندرية عام 1964 إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وتشكيل جيش التحرير الفلسطيني وانطلاق العمل الفدائي الفلسطيني عبر دول الطوق العربية ، كما شهدت فشل وحدة لم تدم طويلاً بين مصر وسوريا ،أمام هذا الواقع العربي المرير كان هناك واقع مغاير تماماً لدى عدونا الصهيوني في فلسطيننا العربية المحتلة. .. ففي الوقت الذي كان فيه العرب يصفون حساباتهم مع بعضهم البعض كان عدونا الصهيوني يستحث الخطا لبناء قدراته العسكرية لفرض وجوده في المنطقة من خلال إزالة أي خطر أو عائق يتهدد وجوده حيث أن قادته حين اسشعروا هذا الخطر من الرئيس الأمريكي جون كنيدي على برنامجهم النووي لمعارضته له أرعب ذلك كل من ديفيد بن غوريون وليفي أشكول رئيسي وزراء العدو في حقبة الخمسينات والستينات جرى التخلص منه أي كينيدي بكل هدوء بالإيعاز لأوزوولد من خلال الأيباك واليمين الأمريكي المتصهين بقتله أعقبه اغتيال كل الشخصيات المؤثرة من آل كينيدي في الحزب الديمقراطي ، سارت الأمور بعد ذلك في البيت الأبيض الأمريكي وفق الرغبات الصهيونية خدمة لمشروعها الاستيطاني في فلسطين..
وقد شهد عام 1965 من ضمن الترتيبات تسليم صفقة دبابات ضخمة من ألمانيا الغربية حين ذاك للكيان الغاصب جرى قطع علاقات بعض العرب الدبلوماسية معها وتحديث السلاح الجوي الصهيوني بطائرات الميراج الفرنسية والسكاي هوك الأمريكية والعرب هناك من كان لديه طائرات روسية كسوريا ومصر والعراق والهوكر هنتر الإنجليزية في الأردن وكانت هناك عمليات فدائية عبر دول الطوق العربية عقب تحويل العدو لمجرى نهر الأردن من الشمال الفلسطيني حتى جنوبه سخنت الأجواء وتهديدات من قادة العدو واعتداءات كان أخطرها الاعتداء على قرية السموع في الخليل وانطلاق تهديدات من قادة العدو باجتياح الضفة الغربية واشتعال صراع على الجبهة السورية خاصة في منطقة بحيرة طبريا بين الجيشين الصهيوني والعربي السوري ، هدد رئيس دولة الاحتلال ليفي أشكول إثرها باجتياح دمشق ، أمام هذا التهديد اضطر الزعيم الراحل جمال عبدالناصر لإغلاق مضائق تيران في خليج العقبة بوجه الملاحة الصهيونية والطلب من القوات الدولية التي كانت تتموضع في المضائق بقرار دولي منذ انسحاب قوات الجيش الصهيوني من سيناء بعد فشل أهداف العدوان الثلاثي عام 1956على مصر بالرحيل .. هذا سخن الأجواء بشكل خطير وأصبحت الأوضاع قابلة للانفجار في أية لحظة لكن رغم ذلك فإن ما فعله العرب لم يكن أكثر من تهويش وحرب عبر وسائل الإعلام والعدو يقتنص فرصته للانقضاض السريع على الجبهات العربية..
المزاج الشعبي العربي عامة والفلسطيني خاصة كان تواق لسحق العدو وتحرير فلسطين، تلهبه مشاعر الحماس الذي كانت تؤججه الأغاني الحماسية التي تبث عبر الإذاعات ووسائل الإعلام العربية التي كانت متوفرة في حينه فخرجت حشود جماهيرية ضخمة في كل أرجاء الوطن العربي المؤيدة للخطوة المصرية .. هذا هو واقع الحال الذي كان سائداً حتى الرابع من حزيران 1967، عدونا يستعد بتخطيط استراتيجي للإلقاء بنا في متاهات الصحاري ونحن بلا قدرات وبالعنتريات نرغب بالإلقاء به في البحر... قبل الحرب بيوم اتصلت القيادة السوفييتية في القاهرة طالبة من القيادة المصرية أن لا تكون البادئة في الهجوم هذا ما بثته وسائل الإعلام قبل يوم من البدء فيه من قبل سلاح جو العدو الصهيوني وفي هذا الدليل الواضح على التقاء الشرق والغرب على دعم وحماية الوجود الصهيوني في فلسطين.
في يوم الإثنين على ما أعتقد الخامس من حزيران كنت في قاعة امتحان التوجيهي في المدرسة الفاضلية في طولكرم المدينة الحدودية مع عدونا ، عندما سمعت من أحد مراقبي الامتحان يتحدث مع مراقب آخر أن الحرب قد بدأت ، حقيقة أن الناس كان يحذوها الأمل بالنصر ، عند الساعة التاسعة صباحاً بدأت المدفعية الصهيونية بقصف المدينة بالمدفعية سلمت وزملائي الطلاب دفاتر الإجابة قبل أن نكمل إجابة الأسئلة وخرجنا نحو بيوتنا ..لما بدأت المدفعية الصهيونية بقصف الأحياء السكية بالمدفعية خرجنا نحو الجبل والقرى البعيدة عن القصف المدفعي لحين التيقن بما ستسفر عنه الحرب حيث بدأت في اليوم الثاني تتضح الأمور حسم مجراها لصالح العدو وانهيار في مختلف الجبهات ووصول الجيش الصهيوني لقناة السويس ومن ثم احتلال الضفة الغربية وبعد ذلك انهيار الجبهة السورية واحتلال الجولان . ما وصلنا من معلومات في الضفة ان العدو قطع الضفة الغربية عن الشرقية باحتلاله مجرى نهر الاردن من الشمال حتى البحر الميت وبفعل ذلك أخذت القوات الصهيونية تتقدم من الشرق نحو الغرب حيث احتلت أريحا وطوباس ومن هناك توجهت نحو نابلس وكان الجيش الصهيوني للتمويه يرفع على آلياته ودروعه أعلاماً عربية وفي غرب نابلس اصطدم بقوات دروع أردنية بقيادة الشهيد شويعر الذي آثر الشهادة عى الاستسلام حيث دارت رحى معركة برية ضارية لم تتمكن قوات العدو الصهيوني البرية من الصمود أمامها فتم الاستعانة بسلاح الجو الصهيوني الذي استخدم قنابل النابالم في إحراق من كانوا يقاتلون في الدروع الاردنية وقد شاهدت الدروع وجثث الشهداء المحترقة عليها بين أشجار الزيتون في وادي التفاح على أطراف نابلس في اليوم الثاني من المعركة التي جرت. في يوم الاربعاء دخلت ميلشيا المستوطنة القريبة من مدينة طولكرم مع قوات من الجيش الصهيوني المدينة حيث كانت تطلق قذائف مدفعية على أي جسم يتحرك حيث استشهد العشرات من سكان المدينة ومخيميها طولكرم ونور شمس ، حصلت هناك بطولات فردية في المقاومة أثناء الاجتياح لكنهم استشهدوا جميعاً، وهناك أبرياء استشهدوا جراء القصف وإطلاق النار من بينهم ثلاثة زملاء من نفس صفي الدراسي قدموا التوجيهي كانوا من الناجحين حين أذيعت أسماء الناجحين عبر الإذاعة الأردنية وهم علي الشرقاوي ومحمود صدوق وعادل المصري ، في اليوم التالي لاحتلال المدينة عدنا من الجبل لنتوجه لبيتنا لكن كانت هناك اعتقالات طالت شباب من المدينة من بينهم ابن عم لي - طالب توجيهي نقلوا على سجن عتليت الصهيوني ، حدثني بعد إطلاق سراحه عن العذاب الذي كان يتعرض له المعتقلون وأسارى الجيشين السوري والمصري تصل لحد التصفية الجسدية في السجن ، ومنعنا من التوجه لبيتنا من جيش العددو حيث كان هناك قرار صهيوني احتلالي بترحيل سكان المدينة والقرى الحدودية نحو شرق الأردن مستخدمين باصات شركة إيجد الصهيونية في ذلك يقودها جنود صهاينة وبحراستهم ، ابتدأوها بأعيان المدينة من محامين وأطباء واعضاء البلدية كل باص يفرغ ركابه بالتدريج على بعد كيلو عن الآخر حتى وصلوا لنهر الأردن ما خلق أزمة النا زحين في الأردن وكان أن جرى وضعي مع بعض من أفراد أسرتي في نابلس مكثنا ثلاثة أيام فيها حتى جاءت الأوامر بعودة الناس الذي جرى تهجيرهم بضغط من الأمم المتحدة ، تعرضت خلال وجودي في نابلس لمرتين لإطلاق النار من جيش الاحتلال لكن العناية الالهية حفظتني.. الناس حزنت لما جرى من هزيمة سريعة وغير متوقعة وبكت لسقوط القدس كما بكت لاستقالة عبدالناصر لكنها لم تدرك أن ما حصل ستستمر آثاره لغاية الآن وأنهم سيقايضوا على حقهم بالحرية والاستقلال مرغمين.
بقي لي كلمة أخيرة ... وأنا في نابلس التقيت بجندي كان في القدس قال أنه ووحدته تحركوا نحو جبل المكبر وحرروه فطوقتهم القوات الصهونية ودارت رحى معركة ضارية امتدت للقدس استشهد من استشهد وحين نفذت ذخيرته رحل ومن معه من هناك . هذا غيض من فيض ما في جولة في ذاكرتي قدمتها حول ما جرى عام 1967 والتي مست الأمن القومي العربي في الصميم ..
بقلم/ عبدالحميد الهمشري