العثور على الذات ... اغتيال الدونية (7)

بقلم: عدنان الصباح

يواصل العرب اذن تبعيتهم شبه المطلقة للغير وبشكل يدعو للعجب فمن جهة يسود خطاب متشدد ضد الغرب وافكاره وعلومه حتى, ومن جهة أخرى التصاق اقتصادي تام وتسليم بأمر السياسة حد التنفيذ لإرادة الغير المخالف والمختلف بالراي والرؤى والمصلحة, نرفض كليا الثقافة ونمط العيش ومكتشفات العصر احيانا ما دامت اتت من الغرب ونقبل بلا حدود على استخدامها وبشكل مفرط دون ان نتدخل في بنيتها او تأثيرها او حتى نسعى لمحاولة التأثير بها لصالح اعادة بناء ذواتنا على قاعدة الانطلاق الى الامام, وبدل ان ننشغل بمنجزات العصر وموقعنا منها وعلاقتنا بها نواصل الانشغال في حياتنا اللفظية واليات التعاطي مع الكلام بوصفه نطقا وبوصفه فكرا دون ان يرتبط الفكر بالفعل والعمل على الارض بما يعني مزاوجة غير مبررة بين القول وفكر القول لا بين الفعل وفكر الفعل وفي احسن الاحوال نناقش العلاقة بين الفكر وفعل الفكر قالبين الكون تماما كحكاية من يقف في المقدمة العربة ام الحصان دون ان يسال ما العلاقة الرابطة بين العربة والحصان, فنحن هنا اتينا بهم لنتحرك واداة الحركة هي الحصان وبالتالي فان مكانة الحصان مرتبطة بهدف التحرك فاذا كانت الحركة الى الامام فلا بد من ان يكون الحصان في المقدمة واذا اردنا العودة للوراء فبالتأكيد سيكون الحصان في الخلف.

انهمك المفكرين العرب ببحث العلاقة بن البيان والبرهان والعرفان كل منطلقا من مصالحه فالخليفة المأمون قاد معركته ضد العرفان ساعيا الى حفظ سلطته وفكرها الديني الرسمي ومنع الغير من مناقشة حقه المطلق بها او مطلق تفسيراتها للدين حسب مصلحة السلطة الرسمية التي مثلها راس الدولة الخليفة او امير المؤمنين ورغم حدة الصراع وتناقضه بين البيان والبرهان والعرفان الا ان احدا من مفكري العرب لم يقدم ادوات تفكير مترابطة قائمة على منهجية خاصة بالعرب او مستقلة عما سبق من مناهج التفكير الانساني وظل العرب اسرى مناهج اليونان وفلاسفتها بكل مدارسهم حتى انتقلوا الى المدرسة الرأسمالية والاشتراكية وحتى في محاولات الهرب من الوقوع العلني المباشر في ذلك اقترضوا من الغير منهجيات التفسير للمناهج الام ووقعوا اسرى الليبرالية او النيو ليبرالية والبنيوية او ما بعد البنيوية والحداثة او ما بعد الحداثة بسفسطات لم ترتقي ولا لمرة واحدة الى نقل الفكر العربي الى الامام.

العقل العربي عقل مخلوق جاهز ومعد مسبقا للتعاطي مع الحياة على اساس انها بنى جاهزة العمل لا يمكن اعادة فكفكتها واعادة ترتيبها وبناءها من جديد حتى لو استخدمت نفس الحجارة فما بين الاغريق واليونان بفلسفة السؤال المتواصل حتى ما وراء الطبيعة الى عولمة كيس الحاوي الامريكي فإننا لم نجد حجارة جديدة بل وجدنا اعادة بناء جديد وتشكيل جديد قائم على نفض الغبار والقاء الحجر المنخور بعيدا عن باقي الحجارة ليستقر البناء.

لا البنيوية اذن ولا الحداثة ولا ما بعدهما ولا ما قبلهما يمكن ان تؤثر في منظومة عقل وفكر مسيطر عليه قصة خلقه الجاهز الرافض لأية فكرة مغايرة حتى لو اعتمدت على براهين دينية تؤكد الخلق كأساس ومنطلق والابداع والحرية كبعد منتج من منتجات المادة مما جعل من الفكر العربي منتج جامد متلاصق بعقل محدود الامكانيات ومقتنع بانه غير قادر على تجاوزها ومرهون بالغيبيات حد التسليم بها وبكل ما يصدر عنها رافضا حتى مناقشتها او اخراجها من السياق لصالح التخلص منها كفكر ومنهج.

ليست الغيبيات دائما مصدرا للتخلف ان اُحسن التصرف بها ومعها واستخدامها كالدعوة للعمل والخير والتعلم من قبل عقل واعي مستقل منتج لفكر فعل هادف بالانتقال الى الامام عبر النقل والتطوير للفعل لمعاودة النقل والتطوير فلاعتماد على الايمان كأساس لطلب النجاح عبر الفعل الواعي يتعارض كليا بالارتهان الى الغيبيات لتحقيق الانتقال للجديد ايا كان ايجابا ام سلبا فالغرب ايضا مر ويمر بحالات من الارتهان للغيب والقبول به وبما ينتج من مقاولي الدين الذين زاوجوا بينه وبين السلطة عند العرب بينما قبل الغرب اخيرا بإجراء الطلاق دون القطيعة والفرق كبير فبإمكانك ان تؤمن وتعمل وتنتظر نتائج عملك بعمل جديد مخالفا اولئك الذين يتقنون الانتظار لذاته على قاعدة ان الخلق فعل الهي مطلق لا يجوز الاقتراب منه خالطين بين خلق الروح وخلق ماكنة صناعية تصلح لإجراء انتقال حضاري لا يمس بإيمانك المتواصل.

الخوف اذن من السلطان صار يبرر بالخوف من دين السلطان وجرت المساواة بينهم على قاعدة اولي الامر منكم دون فحص العلاقة بين الحاكم والمحكومين ومدى انطباق منكم هذه على حال اصحاب الحكم المطلق الذين ساووا بين ما يريدون وما يريد الله لصالح تغييب الله الخير واستحضار الحاكم الشر ومنع التفريق لحد قبول شر الحاكم على انه ارادة الله ومن يملك لإرادة الله تغييرا ؟؟ وتم تدجين الدين بهدف تدجين العقل وتحويله الى عقل تبريري لا تفسيري الى حد اصبحت ارادة الحاكم ومصالحه هي الاساس في الفكر الفقهي عند العرب ولم يعد الفقيه يستشعر الحرج من تغيير فتواه الى فتوى معاكسة اذا كان تلك رغبة الحاكم وما جرى مؤخرا من تغييرات دراماتيكية في بلاد الحرمين حسب رغبة ولي العهد وانصياع الفقهاء لإرادته ورغبته حد تقديس حاكم امبريالي كدوناد ترامب.

في حال تدجين العقل سنجد انفسنا تلقائيا متورطين بتخلف نعشقه ونتوحد معه ونرضى به ولا نقبل بديلا عنها اما جهلا واما امعانا في الخضوع للحاكم بقبول تبريراته وبالتالي يذهب اصحاب الفلسفة الفقهية بدورهم الى مدرسة التبرير والمحاججة لا البيان والبرهان وحين يضطرون للانتقال الى البيان والبرهان على قاعدة وحدتهما الواقعية فانهم يقبلون ببرهان البيان اللفظي كنص على قاعدة القدسية المطلقة للنص كصاحب النص ثم يمنحون انفسهم حق الحذلقة في التفسير والتبرير فإما ان يذهبوا بفقهم الى تسليم الكل لإرادة الحاكم بأمره او يهربون منه الى غيبيات وسخافات توغل في السفاهة وتجعل من العقل ليس اداة لانجاب الفكر الناقد بل ببغاء لترديد ارادة الفقه الناقل وما الحكايات السخيفة التي يقودها تنابلة الفقه ومسوقي الغيبيات عن الجنة كالحديث عن عالم الحوريات في الجنة او عن مدة حالة الجماع الواحدة زمنا او عن اوصاف الحوريات وحياة البذخ في الجنة حد الاستخفاف بعقول البشر من قبلهم وقبول العامة بما يعطى لهم لجماله ودوره التخديري لإبعاد العامة عن فعل تحقيق الرخاء على الارض مؤقتا بانتظار الرخاء الموعود لحياة لا تنتهي وانتقال اخرين حد الانشغال بالقضايا السخيفة وترك القضايا الكبرى كالنقاش حول استخدام شطافة المرحاض في رمضان او معايدة غير المسلم او مشاركته افراحه او شكل لباس المرأة وما يجوز اظهاره او عدم اظهاره وهل الخمار فرض ديني ام لا وهل صوت المرأة عورة ام لا وهل يجوز تسليم السلطة او القيادة لامرأة وهل المرأة ناقصة عقل ودين ام لا وما الى ذلك من سخافات قد يخجل المرء حتى من ذكرها لشدة ايغالها بالسخافة.

العديد تحدث عن استقالة العقل العربي وقبوله بمكانة المركون في الزاوية لصالح القبول بالنص المقدس ليس النص الديني فقط بل والنص النيوي فنص الحاكم بات مقدسا ونص المدير ونص الاب وكل صاحب سلطة حصل على قسط من القداسة عند ابتاعه حسب درجة سلطته وبالتالي حرم العقل المركون في الظل من حق السؤال الذي يعتبر الاساس لاستحضار العقل النقدي فانت لا تملك الحق بالسؤال ما دامت الاجابة مطلقة الوجود برغبة السلطان الملهم وحسب المعطيات المعطاة من قبله وبذا ظل التعليم العربي ممسكا بطريقة التلقين رافضا لطريقة السؤال خشية ان يصبح السؤال هو الاساس وتترك العقول زوايا عتمتها لتبحث عن الاجابات في فضاءات الحرية.

نحن بحاجة اذن اولا للسؤال واستعادة الحق بإطلاقه في فضاء البحث ليصبح من حقنا استحضار عقولنا للإجابة دون قيود السلطة والسلطان وهو ما سيجعلنا مجبرين على استخدام عقل نقدي فاعل رافض للمعطيات الجاهزة المؤيدة لما اتى او سياتي به صاحب السلطة أيا كان وايا كانت سلطته وبذا ندرك ان السؤال المطلق هو بوابة الحرية وهو وحده القادر على نقلنا الى الامام حين لا نقبل بإغلاق الابواب على انفسنا والالتفاف على حالنا بأدوات الغير دون تسميتها فإما ان نبدع ادوات تفكير وفعل جديدة او ان نعطي انفسنا الحق بامتلاك ادوات الاخرين لا اقتراضها من باب ان الحضارة الانسانية واحدة والفكر الانساني واحد بما يؤهلنا لتطوير ما تملك البشرية حد امتلاكه كغيرنا لا التنازل عن الارث الانساني حد اخراج انفسنا من دائرة اصحب حق الورث لأبناء الاسرة الانسانية الواحدة فمن يتنازل عن حقه في الارث يتنازل عن مفرزات هذا الحق وتجلياته ويقبل بالانعزال بعيدا لا حول له ولا قوة سوى قوة سيده ليصبح اداة تنفيذية لا فعلا واعيا لما يريد وما يراد.

التخلي عن العقل التسليمي والتبريري لصالح العقل السائل والباحث هي المقدمة الضرورة للخروج من دائرة التبعية المفرغة الا منا وحين نصل الى مرحلة القدرة على استخدام الحق بإطلاق السؤال وتنفيذ هذا الحق سنجد انفسنا حتما في دائرة البحث عن الاجابة على سؤالنا كمقدمة لامتلاك القدرة على استخدام الاجابة في ارض الواقع كمكون جديد ورافعة للفكر الانساني لنمتلك الحق كغيرنا في استخدام الدرجات المنفذة بناء قائما وصلبا من صرح الحضارة الانسانية الذي لن يكتمل الا باكتمال الحياة ان حصل, ويصبح من حقنا امتلاك واستخدام الاجابات عن كل الاسئلة التي اثيرت وتمت الاجابة عليها لصالح اسئلة جديدة لم يتم طرحها وبالتالي لم تتم الاجابة عليها وحين نصبح قادرين على استحضار السؤال الضروري ونسعى للإجابة عليه فعلا سيكون من حقنا ان نكون عنصرا حيا من العناصر المكونة للحضارة الانسانية لا طحالب على اطراف نهرها لا حول لنا ولا قوة.

تصر الفلسفة الفقهية على منع العقل من الفعل وقطع علاقته بحق السؤال متجاوزة بذلك كل النصوص الدينية التي تعطي الحق المطلق للعقل بالسؤال والتحاور مع الواقع والبحث عن الاجابات عبر فعل دائم وحق مطلق بدءا من النداء الالهي بأول كلمة في القرآن اقرأ والتي لا تحتمل أي تفسير سوى بمعنى فكر فان تقال كلمة اقرا لإنسان لم يكن يحمل ما يقرأه او لإنسان تقول بعض الروايات انه كان اميا او لحالة لم يكن فيها كتاب لقرأ فلن يكون هناك الا معنى واحد وهو فكر وما تبع الآية يدل على الهدف فالله قدم بيانات ليبرهن على وجوده وقال له اقراها أي فكر بها واستخدم عقلك للإجابة وهو هنا تصريح بطرح السؤال واعطاء الحق بالحصول على الاجابة للسائل من المسئول فالسؤال حق تماما كحق السعي للحصول على الاجابة والبحث عنها حتى ايجادها والقبول بها ويزخر القرآن الكريم بالآيات الداعية للتفكير وكلمات مثل تعقلون ... تنظرون ... يتدبرون هي دعوات صريحة لإعمال العقل والفكر واطلاق الاسئلة بعكس ما يريد اليوم دعاة الفقه التجهيلي الداعي للاذعان بلا اسئلة ولا اجابات.

بقلم/ عدنان الصباح