استمعت إلى أمي مرارا وهي تروي لنا جزء من حكايتها مع الاعتقال. والتقيت بعض الأمهات اللاتي حكين لي عن تجربتهن مع السجون. وتحدثت كثيرا عبر الهاتف مع أخريات حول معاناتهن العميقة في ظل استمرار اعتقال أبنائهن في سجون الاحتلال الإسرائيلي. ولكل أم منهن ما يوجعها، وان تحدثت أوجعتنا مرات. وهذه "أم العبد" هي واحدة من امهات الأسرى، الماجدات والصابرات، أم الأسير "ناصر أبو سرور" من بيت لحم. وحينما اتصلت بها مطمئنا على صحتها، فرحبت باتصالي، وسُعدت أكثر بعدما علمت أني أسكن غزة. لكنها أوجعتني بحديثها الحزين، وأبكتني قسوة كلماتها. وهي تردد ما قاله لها ابنها الأسير:
أمي: لا تموتي قبلي. وان جاءك ملك الموت (عزرائيل). أبلغيه أن هناك في السجون لي ابنا معتقلا منذ ما يزيد عن ربع قرن، وأحلم باحتضانه حراً. فانتظر قليلا أو كثيرا حتى يفرّج الله كربه. وبعدها خذني حيثما تريد لي أن اذهب.
واستطردت قائلة: وهل لملك الموت أن يستأذن قبل الدخول ؟ فالأعمار يا بني بيد الله سبحانه وتعالي. كبرت وشاب رأسي، وهرمت واثقلتني هموم الحياة ووجع الأمراض، وقد أموت قبل أن يُفرج عن "ناصر". فكثير من الأمهات رحلن وأبنائهن يقبعون في السجون بعد أن طال انتظارهن لعودتهم من سجون الاحتلال.
وحينما أردت أن اشد أزرها وقلت لها: السجن لا يُبنى على أحد. فردت باستهجان: ها هي السنين تمضي يا بُني، وقد مضت سبعة وعشرين سنة، وما زلنا ننتظر .!
رفقا بنا يا وجع، ما عاد في الروح متسع. ويسألوك عن ذاك الوجع. قل لهم: الاحتلال هو السبب ونحن نتحمل جزءا من المسؤولية في استمرار الوجع.
اسرى "ما قبل أوسلو". أعمار خلف القضبان واسماء تنتظر أن تدرج على قائمة الافراج. لقد مرّ هؤلاء "القدامى" بتجربة صعبة ومريرة، ما بين القيود التي فرضتها سلطات الاحتلال، وما بين الثغرات التي تخللها "اوسلو" وآليات التعامل الفلسطيني. لذا وجب علينا جميعا أن نعيد الاعتبار لهذا الملف، وأن نبقيه مفتوحا على الدوام، وعلى صدارة أجندة اهتماماتنا بإستمرار.
"ناصر حسن عبدالحميد ابو سرور" (48 سنة) من سكان مخيم عايدة شمال بيت لحم، ومعتقل منذ الرابع من كانون ثاني عام 1993 ويقضي حكما بالسجن المؤبد (مدى الحياة) بتهمة الانتماء لحركة "فتح" ومقاومة الاحتلال وقتل ضابط اسرائيلي، وقد مضى على اعتقاله ما يزيد عن سبعة وعشرين سنة متواصلة، ويقبع الآن في سجن (هداريم).
ويحتل الرقم (21) على قائمة قدامى الأسرى المعتقلين منذ ما قبل اتفاق "اوسلو". هؤلاء الذين كان من المفترض اطلاق سراحهم ضمن "الدفعة الرابعة" . حيث ومع استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية أواخر تموز/ يوليو عام 2013. كان الطرفان المتفاوضان قد اتفقا, برعاية أمريكية, على إطلاق سراح كافة المعتقلين قبل "أوسلو" على أربع دفعات، خلال تسعة شهور, وفيما التزمت إسرائيل بإطلاق سراح الدفعات الثلاثة الأولى. إلا أنها تنصلت من الاتفاق ورفضت إطلاق سراح الدفعة الرابعة الذين كان من المفترض إطلاق سراحهم في أواخر آذار/مارس من العام 2014، وعددهم اليوم ستة وعشرين أسيرا، مما دفع الطرف الفلسطيني إلى وقف المفاوضات.
الحاجة "مزيونة" (78 سنة) وكنيتها (أم العبد)، هرمت بعد أن تقدمت وبلغت (78 عاما) من العمر، وتعيش بقية عمرها وهي تقلب صور "ناصر" وتترقب الافراج عنه، وتخشى الرحيل قبل أن تحتضن ابنها الأسير حرا ..!
بقلم/عبد الناصر فروانة