حق حركة والتنقل للفلسطينيين بين الوعي التحرري والهيمنة في السياق الاستعماري

بقلم: عمر رحال

يؤكد خبراء قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني أن لسكان الأراضي المحتلة الحق بالتنقل والحركة بحرية، وأن على دولة الاحتلال احترام هذا الحق، الحق بالتنقل والحركة راسخ في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وفي العديد من المواثيق والمعاهدات الإقليمية تماشياً مع صفة الإنسان التي ترفض القيود وتأنفها.
لكن للاحتلال رأي مختلف، باستعراض الصيرورة التاريخية ، فقد تنوعت أشكال السياسة الإسرائيلية في منع الفلسطينيين من حرية التنقل والحركة متحولة وآخذة أشكال متعددة ومنطلقة من ذات المبدأ الاستعماري الثابت، في السابق كان الحكم العسكري يمنح تصريحاً محدد المدة للشخص الذي يريد مغادرة البلاد (تصريح شهر، تصريح تسعة شهور) ، كما كانت سلطات الاحتلال تجبر الفلسطينيين على ترك بطاقاتهم الشخصية على الجسور، وفي الانتفاضة الأولى عام 1987 فرض الحكم العسكري على الأسرى بعد خروجهم من السجن (الهويات الخضراء)، يضاف لذلك الحواجز الدائمة "ثابتة" والحواجز المتحركة "طيارة"، وتقسيم الضفة الغربية إلى ست وحدات جغرافية أساسية (شمال ، وسط ، جنوب ، منطقة الغور وشمالي البحر الميت ، جنوب الجدار الفاصل ، ومنطقة شرقي القدس) ، إلى جانب جدار الفصل العنصري ومداخل وبوابات الجدار ، والمناطق المغلقة ، والشوارع الخاصة بالمستوطنين ، يضاف لها شوارع خاصة بالفلسطينيين وشوارع مشتركة ومسارب محددة لكل طرف ، مما جعل قدرة الفلسطيني على التنقل من منطقة لأخرى مقيدة  ، وحوّل الحركة إلى عملية صعبة ومعقدة .
بالعودة إلى الجذور، المشروع الصهيوني قام تاريخياً على فكرة طرد العرب من فلسطين وتهجيرهم منها، ولم تكن الحركة الصهيونية بعد مؤتمرها الأول الذي عقد في مدينة بازل عام 1897 بعيدة عن المقولة الزائفة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" التي تنسب إلى الكاتب الكوميدي يسرائيل زانجويل صاحب فكرة الترحيل والاستيطان، فدولة الاحتلال تريد من وراء إجراءاتها التعسفية والتي هي تعبير عن فكر ومشروع الحركة الصهيونية أن تحارب الوجود الفلسطيني بكل الطرق. وهو الوجود المتحدي من الناحية الجغرافية والديمغرافية الممتد على طول وعرض فلسطين التاريخية والذي ما انفك يؤكد بما لا يدع مجال للشك بأن الفلسطينيين صامدون على أرضهم، فلا قوة الولايات المتحدة وسياساتها المنحازة، ولا المجازر الإسرائيلية والتدمير والاستيطان والمصادر والإغلاق يمكن أن يخرج الفلسطينيين من أرضهم.
الشرعة الدولية  تلزم الدولة القائمة به باحترام القوانين النافذة في الأرض المحتلة وعدم تغييرها ، بالرغم من ذلك تستند إسرائيل بإغلاقها للأراضي الفلسطينية للأمر العسكري رقم (34) الخاص بالضفة الغربية، والأمر رقم (144) الخاص بقطاع غزة اللذان يقيدان عملية تنقل الفلسطينيين، فالأصل في التشريعات الإسرائيلية أن جميع الأراضي الفلسطينية مغلقة، والاستثناء هو السماح للمواطنين بالتنقل وحرية الحركة في تبديل للأدوار واستفزاز للمنطق ، واستخدامه سياسياً لتجميل المشهد الاحتلالي وأنسنة الممارسات العنصرية.
في ذات السياق الاحتلالي، هذه الأوامر العسكرية تم سردها من خلال ما تسمى الإدارة المدنية وقائد قوات جيش الاحتلال في الضفة الغربية - شعبة العمليات والتنسيق عام 2016 على شكل (دليل إجراءات) باللغة العربية يُفصّل عملية تنقل الفلسطينيين في الضفة الغريبة وقطاع غزة وإجراءات السفر للخارج سمي (واقع التراخيص غير المصنف لدخول الفلسطينيين إلى إسرائيل، وتنقلهم بين مناطق يهودا والسامرة وقطاع غزة، وسفرهم خارج البلاد).
وهو ما يؤكد أن هذه الإجراءات والقيود تعكس سياسة حكومة الاحتلال تاريخياً بأن حرية الحركة والتنقل للفلسطينيين ليست حقاً مكفولاً ومضموناً، وإنما يندرج ذلك في إطار إجراءات (التسهيلات)، باعتبار أن الحق في التنقل والحركة هو (منّة) من دولة الاحتلال  تمنحه متى تشاء للفلسطينيين ضمن القيود التي تراها مناسبة، وكل ذلك مرتبط ومرهون بالأوضاع الأمنية والميدانية، حسب وجهة النظر الإسرائيلية واستشعارها لهذه الأوضاع.
أما رقمياً ، ووفقاً لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة (أوتشا) فإن هناك (705) حاجزاً وعائقاً دائم في مختلف أنحاء الضفة الغربية ، تقيد حركة المركبات الفلسطينية، وتنقل المواطنين الفلسطينيين، بما فيها الحواجز العسكرية والبوابات الإلكترونية، حيث تشمل العوائق 140 حاجزاً يتمركز عليه الجنود بشكل دائم 24 ساعة يومياً، وحواجز بين الفينة والأخرى، و165 بوابة طريق لا يتمركز عليها الجنود (ونحو نصف هذه البوابات مغلق في الأحوال العادية)، و149 ساتراً ترابياً و251 عائقاً غير مأهول (متاريس الطرق، والخنادق، والجدران الترابية ، وغيرها). وبين شهر كانون الثاني/ 2017 ونهاية شهر تموز/ 2018، أقامت قوات الاحتلال 4,926 حاجزا (طياراً)  أو ما يقرب من 60 حاجزٍ في الأسبوع، كما وأشارت (أوتشا)  أن هذا العدد من الحواجز يشكل ارتفاعاً تبلغ نسبته 3% عما كان عليه الحال في السابق.
التقارير والصور الواردة من الحواجز سواء لعمال يكابدون من أجل الوصول إلى أماكن عملهم في الأراضي الفلسطينية عام 1948، أو لمواطنين فلسطينيين من مختلف أنحاء الضفة الغربية يريدون الوصول إلى المسجد الأقصى، ينتظرون ساعات طويلة (محشورين) في مسارب إسمنتية ضيقة أشبه ما تكون بأقفاص، أو لطوابير من الأشخاص والسيارات على الحواجز الثابتة والمتحركة، تشبه صورها إلى حد بعيد صور اليهود قبيل الحرب العالمية الثانية وهم يساقون إلى المحرقة على يد النازية في ألمانيا. هي إذاً صور مخجلة بها الكثير من الإهانة، وتفيح منها رائحة العنصرية والاستعلاء والحقد واللاإنسانية، تؤكد على الإذلال الذي يمارس من قبل دولة الاحتلال بحق المواطنين الفلسطينيين، تعبيراً عن نظام الفصل الجيوعرقي.
وهو ما يطرح السؤال الأساسي ، ماذا تقصد المؤسسة العسكرية والأمنية والإعلامية في دولة الاحتلال عندما تطلب من رئيس ما يسمى بالإدارة المدنية في الضفة الغربية وهو من فلسطيني العام 1948 أن يخرج ليتحدث عن التسهيلات التي يقدمها جيش الاحتلال للفلسطينيين، وإلى ماذا ترمي سياسة الاحتلال عندما يقوم قائد جسر (اللمبي) حسب التسمية الإسرائيلية وهو أيضاً فلسطيني بالتجول بين العمال أثناء تناولهم الإفطار في رمضان، مرحباً ومؤكداً على دور (الدولة) في تسهيل حركة الفلسطينيين على الجسور.
على معبري كرم أبو سالم وبيت حانون لا تقل الصورة بشاعة ، عندما يتحدث مسؤولو المعبرين وهما أيضاً فلسطينيين عن التسهيلات وإدخال البضائع لقطاع غزة المحاصر، عن أي كيٍ للوعي نتحدث؟ وعن أي رسالة تريد دولة الاحتلال إيصالها؟ وعن أي استعمار نتحدث وهو يعدم الأطفال والنساء على الحواجز التي أصبحت أشبه ما تكون بالمصيدة للفلسطينيين وفي الوقت عينه يجمل هذه الممارسات بعملية غسيل أبيض؟ عن أي تسهيلات نتحدث وآلاف الفلسطينيين تمتهن كرامتهم يومياً على الحواجز؟
لا تكمن مشكلة الحواجز في أنها انتهاك لحرية الحركة والتنقل فحسب ، وإنما هي واحدةً من أسوأ مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان، ومع وجود نظامين قانونيين مختلفين ونسختين من التشريعات للاستخدام ، تشرعن سياسة الاحتلال تجاه تنقل الفلسطينيين التي تستند على التمييز الصارخ على خلفية قومية، وإلى جانب ذلك ترتبط في العديد من جوانبها بعددٍ من الممارسات التي تؤثِر فعلاً على حياة المواطنين وكرامتهم، فوظيفة الحواجز على سبيل المثال ليست إعاقة مرور الفلسطينيين فحسب، وإنما احتجاز وتعرية وضرب واعتداء واعتقال وتخويف، وتفتيش مهين لكرامة الإنسان، وتحرش وتصرفات لا أخلاقية، وكلاب واستخدام لكلمات نابية، وصراخ، وإطلاق قنابل الصوت والغاز، وإغلاق الحواجز، والجرح والقتل، والأهم دورها في كي الوعي الفلسطيني وتعويده على الانتظار والانصياع للأوامر والتعليمات الاحتلالية على هذه الحواجز التي يجملها الاحتلال ويسميها معابر مثلما يقوم جنرالاته بتجميلها بجولات فيها وأحاديث زائفة مع المواطنين، في مسلسل لا تنتهي حلقاته إلا بجلاء الاحتلال عن أرضنا، هذه السياسة ليست صدفة، بل تنطلق من التعليمات والأوامر والعقيدة الأمنية والعسكرية لجنود جيش الاحتلال، هي صورة صادمة للرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين وهم ينتظرون إشارة من جندي للتقدم، وفي أحيان أخرى تفتح وتغلق الحواجز في ساعات محددة، في الوقت الذي يتنقل به مئات الملايين بين بلدان الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي دون حواجز وهو الطبيعي.
كما أن سياسة الاغلاقات والحواجز التي تفرضها دولة الاحتلال هي شكل من أشكال العقوبات الجماعية التي تمارسها دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين، فمنع الفلسطينيين من التنقل يعني حرمانهم من الوصول إلى أماكن العبادة، وإلى أماكن العمل، وإلى مؤسساتهم التعليمية، والصحية، كما أن حرمانهم من التنقل والحركة يؤثر على العلاقات الاجتماعية والأسرية، ويكبدهم خسائر اقتصادية جسيمة واستنزاف وهدر بلا معنى للوقت. هذه الانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن لا شرف للعسكرية الإسرائيلية، وأن لا طهارة لسلاح جيش الاحتلال باعتباره جيشاً محتلاً وغاصباً. وأن ما يمارسه جنود الاحتلال بحق الفلسطينيين لا يندرج تحت إطار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان فحسب، بل يندرج في إطار انعدام الأخلاق  بين صفوف جنوده، فلا قيم ولا أخلاق لجنودهم وهم أبعد ما يكونون عن أخلاق الفرسان والنبلاء، وعقيدتهم العسكرية عقيدة عنصرية استعلائية، قائمة على القتل والخراب وسفك الدماء، هذه هي تربيتهم وهذه هي عقيدتهم العسكرية القاصرة .
نحن الفلسطينيون سواء المؤسسة الرسمية أو حتى مؤسسات المجتمع المدني لم نتبن حتى الآن مقاربة أو إستراتيجية لمخاطبة العالم لفضح السياسة الإسرائيلية الممنهجة التي تحرم الفلسطينيين من أبسط حقوقهم في الحركة والتنقل ، وبقيت الرواية الإسرائيلية وحيدة في واجهة الأحداث متصدرة المشهد بروايتها المشوهة أن هذه الحواجز هي (لحماية) الإسرائيليين من هجمات الفلسطينيين، وفي الطرف المقابل فقد قبل العالم التبرير الإسرائيلي وتساوق معه، بل وجد مزيداً من التضامن مع دولة الاحتلال في (حقها) بالدفاع عن نفسها.  
الخلاصة ليس هناك مستعمر جيد أو مستعمر شرير هناك مستعمر فقط، فلم يسجل التاريخ أن هناك مستعمراً جيداً، وأن هذا المستعمر جاء من أجل شعب أو أمة لمساعدتها والوقوف إلى جانبها، وإنما جاء من أجل مصالحه فقط ولنهب الثروات والخيرات.
وهو ما يؤكد أن تجميل الصورة للمحتل المستعمر من خلال الإعلام سواء التقليدي أو الحديث لن يكون له تأثير على قناعة الفلسطيني من أن هذا الاحتلال هو احتلال استيطاني كولونيالي إحلالي، ويؤكد أن هذه الصورة التي يراد بها كي الوعي الجمعي للفلسطينيين لن تغير من واقع الحال شيئاً، ولن يكون لها أي تأثير على نضال الفلسطينيين المستمر حتى دحر الاحتلال . صحيح أن المشروع التحرري للفلسطينيين لم يكتمل ولم ينجز لغاية اللحظة ، ولكن الفلسطينيين لم يعلنوا استسلامهم، أو هزيمتهم، وبالحد الأدنى لم يتم التوقيع على إنهاء الصراع مع الاحتلال ، لذا سيبقى الصراع مفتوحاً يخبو ويعلو لكنه مستمراً حتى رحيل الاحتلال ، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الوطني .

بقلم الدكتور: عمـر رحـال