أسباب ودلالات الرفض الشعبي لورشة المنامة

بقلم: حسن نافعة

حرصت مؤسسات المجتمع المدني في مناطق مختلفة من العالم العربي على تنظيم فعاليات متعددة للتعبير عن الرفض الشعبي لورشة المنامة، ولحث الحكومات العربية على مقاطعتها، بل التنديد بكل طرف عربي يشارك فيها، بصفته الرسمية أو غير الرسمية، واعتبار أن مجرد المشاركة فيها جريمة لا تغتفر في حق الشعب الفلسطيني، وخيانة لقضية العرب الأولى.
ولأنني تلقيت في بداية الأسبوع الماضي دعوة شخصية من «جمعية الوفاق الوطني» البحرينية للمشاركة في مؤتمر استهدف إلقاء الضوء على طبيعة وأهداف هذه «الورشة»، فقد حرصت على تلبيتها على الفور، على الرغم من عزوفي المتزايد عن السفر خارج البلاد في الفترة الأخيرة، لأسباب لا مجال للخوض فيها الآن.
حين جاء دوري للحديث أمام هذا المؤتمر، الذي عقد في مدينة بيروت يوم الاثنين الماضي، ركزت في مداخلتي على شرح الأسباب التي تدعوني شخصيا لرفض الفكرة الكامنة وراء عقد هذه الورشة من الأساس، والتنبيه إلى المخاطر الجسيمة التي قد تترتب على القبول، بما قد تسفر عنه من نتائج، ليس فقط باعتباري مواطنا مصريا وعربيا مهموما بالقضية الفلسطينية، ولكن أيضا باعتباري باحثا في العلوم السياسية، يتابع هذه القضية باهتمام بالغ منذ عشرات السنين.
في ما يلي عرض لأهم الأسباب التي استندت إليها لتبرير هذا الموقف:
*السبب الأول: يتعلق بالجهة الداعية والمنظمة لورشة المنامة. فالولايات المتحدة هي صاحبة الفكرة، وهي الجهة الراعية والمنظمة لها، وتتولى بنفسها توجيه الدعوة لكل من ترى أنه قد يساعد على إنجاحها و/أو دعم ما قد تسفر عنه من نتائج ومخرجات. ولأن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استبقت الدعوة إلى هذه الورشة بسلسلة من القرارات أحادية الجانب أهمها: الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، تأييد ضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية وفرض سيادتها المنفردة عليها، إغلاق مكاتب تمثيل السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، الامتناع عن الوفاء بالالتزامات المالية الأمريكية تجاه وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) كخطوة استباقية، تستهدف توطين اللاجئين الفلسطينيين حيث هم، الخ. لذا يفترض أن تلتزم الأطراف العربية جانب الحذر والريبة، إزاء كل ما تقوم به إدارة ترامب، خاصة ما يتعلق منه بالصراع العربي الإسرائيلي وبالقضية الفلسطينية. غير أن مشاركة الدول العربية في ورشة عمل تنظمها الولايات المتحدة الأمريكية وتستهدف البحث عن مدخل جديد لمعالجة قضايا الصراع العربي الإسرائيلي والمشكلة الفلسطينية، لا يشير إلى توخي هذا الحذر، ومن ثم قد يفسر على أنه يعد إقرارا ضمنيا بالموافقة على القرارات الأمريكية أحادية الجانب المشار إليها آنفا. صحيح أنه سبق لمعظم الدول العربية إصدار بيانات تعبر فيها عن رفض هذه القرارات، غير أن حضورها ورشة المنامة يضعف كثيرا من مضمون هذه البيانات، ويحولها إلى بيانات شكلية تعكس مواقف إعلامية لا علاقة لها بالمواقف الحقيقية لأنظمة عربية تبدو منصاعة بالكامل للإملاءات الأمريكية.
*السبب الثاني: يتعلق بمكان وتوقيت الانعقاد، فالورشة تعقد في المنامة، إحدى العواصم الخليجية المرتبطة عضويا بالسياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية، وفي توقيت بالغ الحساسية، يشهد تصعيدا خطيرا في الأزمة الأمريكية الإيرانية التي اندلعت مؤخرا، عقب قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق الدولي المبرم حول برنامج إيران النووي. ولأن السعودية تبدو طرفا أصيلا في هذه الأزمة، ومحرضا للولايات المتحدة على ممارسة أقصى قدر من الضغوط على إيران، بما في ذلك توجيه ضربة عسكرية إن أمكن، فإن مشاركة بقية الدول العربية في «ورشة المنامة» قد يفسر على أنه خطوة على طريق الجهود الرامية للتعامل العربي مع إيران، كمصدر تهديد رئيسي للأمن القومي العربي. بعبارة أخرى يمكن القول إن مشاركة الدول العربية في ورشة تعقد في المنامة وتحت رعاية الولايات المتحدة، من شأنه مساعدة الولايات المتحدة على تحقيق هدفين إضافيين، الأول: دعم الجهود الرامية إلى إقامة تحالف إقليمي ودولي في مواجهة إيران (ناتو عربي)، والثاني: دعم الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج العربي، بصرف النظر عن مصير الجهود الرامية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي أو القضية الفلسطينية.
*السبب الثالث: يتعلق بالموقف الفلسطيني، فعلى الرغم من عمق الانقسامات القائمة بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح، من ناحية، وحركتي حماس والجهاد وبقية فصائل المقاومة، من ناحية أخرى، إلا أن الشعب الفلسطيني كله، بحكومته وسلطته ومنظمته وفصائله، يبدو موحدا تماما حول الرفض الكامل لانعقاد «ورشة المنامة» ويرى فيها خطوة على طريق تصفية قضيته، لذا لم تكتف السلطة والحكومة ومنظمة التحرير والفصائل الفلسطينية المختلفة بالتعبير عن الرفض الكامل لانعقادها، لكنها قامت في الوقت نفسه بمناشدة الدول العربية بمقاطعتها وعدم المشاركة فيها في أي صورة وعلى أي مستوى. ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن تؤدي مشاركة الدول العربية في «ورشة المنامة» إلى تعميق الخلافات العربية، والتأكيد مرة أخرى على أن الأنظمة العربية لم تهتم بالقضية الفلسطينية أو بالصراع مع إسرائيل، ولديها هموم أخرى تبدو أهم بالنسبة لها. ولا جدال في أن تعميق الخلافات العربية وإضعاف الاهتمام بالقضية الفلسطينية، يأتي على رأس الأولويات والأهداف التي تسعى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل لتحقيقها.

*السبب الرابع: يتعلق بالارتباط العضوي بين «الورشة» و»الصفقة». فالهدف الرئيسي من ورشة المنامة يتلخص في العمل على إقناع الدول العربية بأن التعامل مع الجوانب الإنسانية والتنموية المتعلقة بالقضية الفلسطينية وبالصراع العربي الإسرائيلي أهم وأجدى وأكثر فاعلية في تحقيق نتائج ملموسة على الأرض، مقارنة بالتعامل مع الجوانب السياسية أو الحقوقية لهذا الصراع أو لتلك القضية. ويحاول القائمون على أمر هذه الورشة، من هذا المنطلق، إقناع الأطراف المنخرطة في الصراع العربي الإسرائيلي، أو المعنية بالقضية الفلسطينية بأن النجاح في إقامة ما يكفي من المشروعات الاقتصادية والتنموية، سواء لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وتحسين المستوى المعيشي لمن بقي من الفلسطينيين في أرض الوطن، أو لضمان تنمية مستدامة في الدول العربية المجاورة لإسرائيل، سوف يساعد تدريجيا وتلقائيا على حل القضية الفلسطينية، وتخفيف حدة الصراع العربي الإسرائيلي. لذا تعد ورشة المنامة، من هذه الزاوية، مرحلة تمهد لصفقة القرن، وجزءا لا يتجزأ منها. فالاتفاق على نوعية المشروعات المطلوبة، وعلى طريق تمويلها، يعني قبولا ضمنيا بالحل السياسي الذي ستطرحه «صفقة القرن» التي يفترض أن يتم الإعلان عنها بمجرد تشكيل حكومة إسرائيلية عقب الانتخابات التي ستجرى في إسرائيل يوم 9 سبتمبر/أيلول المقبل. وقد سبق لنا ان أوضحنا المعالم الأساسية لهذه الصفقة، من واقع ما نشر في وسائل الإعلام الأجنبية، خاصة الصحف الإسرائيلية (مقالنا المنشور في صحيفة «القدس العربي» يوم 8 مايو/أيار الماضي تحت عنوان «هل تتحول صفقة القرن إلى كابوس؟»).
خلصت في مداخلتي أمام مؤتمر بيروت إلى أن مشاركة الدول العربية في ورشة المنامة يعني قبولا صريحا أو ضمنيا بـ: 1- القرارات أحادية الجانب التي اتخذتها إدارة ترامب مؤخرا، خاصة ما يتصل منها بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين والعمل على توطينهم حيث هم. 2- اعتبار إيران مصدر تهديد رئيسي للأمن القومي العربي، ينبغي مواجهته بتحالف يجمع بين الدول العربية والدول التي تناصب إيران العداء، بما فيها إسرائيل. 3- التعامل مع القضية الفلسطينية كعبء يساعد على تكريس التخلف وإدامة عدم الاستقرار في المنطقة، وليس كقضية شعب اغتصبت أرضه ويتعين الاعتراف له بالحق في تقرير مصيره، والعمل على معالجة هذه القضية عبر حلول اقتصادية ومشروعات تنموية قادرة على انتشال المنطقة من هوة التخلف التي وقعت فيها. 4- التسليم مسبقا بما سيطرح في «صفقة القرن» من مقترحات تتعلق بحق إسرائيل في ضم المستوطنات اليهودية المقامة في الضفة، وهو ما يعني تمكينها من الاستيلاء على ما يقرب من 60% من أراضي الضفة، واستمرار السيطرة الأمنية على غور الأردن، وضم الجولان، الخ. وهذا معناه أن الدول العربية مطالبة ليس فقط بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة مستقلة، مع إنكار هذا الحق في الوقت نفسه بالنسبة لفلسطين، وإنما أيضا بحقها في أن تصبح دولة إقليمية عظمى تتحكم في مقدرات المنطقة وتعمل على ضبط إيقاع تفاعلاتها.
ألا يكفي كل ما سبق مبررا لرفض الشعوب العربية عقد ورشة المنامة واعتبار كل من يشارك فيها من الأنظمة الحاكمة مفرطا في القضية الفلسطينية ومستسلما للإرادة الأمريكية الإسرائيلية؟

  حسن نافعة
كاتب وأكاديمي مصري