أنا مَن يُغنّي لأنّي اجترحتُ المدى
سُلّماً للنداء.
لأنّي أراودُ روحَ البراكينِ
وهي تُمَسّدُ قلبَ الخفاء.
لأنّي أُصَعِّد ماءَ التراتيلِ
رفّاً يُهادِل سَرْوَ البهاء.
لأنّي أصبُّ على الجرحِ جمراً
وأقدحُ أقمارَ ليلِ الفضاء.
أغنّي لأنّي جديرٌ بهذا الدمِ الحرّ
والبرقِ في جسدِ الكبرياء.
أغنّي لأنّي وريثُ الشهادةِ،
والأنبياء.
أغنّي لأنّي أنا العاشقُ البحرُ
والسهلُ والسيلُ والهندباء.
أنا شجنُ الغرباءِ الذين
رأوا بَدْرَهم في حريقِ السماء.
أنا مَن يكونُ ومَن سيكون.
ومَن لا يموتُ إذا ماتت الأرضُ
والطّبقاتُ السّواء..
أنا النغمُ الخالدُ الفذُّ، أبقى
إذا ما يكونُ البقاء.
أنا مَن يَردُّ الظلامَ إذا
زَحَفَت حاملاتُ الهباء.
أُغنّي لأنَّ الحصادَ وسَيْرَ القوافلِ
والموجَ والخَبَبَ الواثقَ المستريحَ،
أو الهودجَ العُرْسَ في سابحاتِ المدى..
كُلّها الجِرْسُ في وَقْعِ هذا الحداء.
لأنَّ النواقيسَ والآيةَ البِكْرَ،
والذَّهبَ المُصطفى ليلةَ الزّارِ،
والحركاتِ التي جَهَدَت كي ترى الكشْفَ
في مقاماتها بالهُدى..
كُلّها السِّرُّ في جَرْحةِ الانتشاء.
أُغنّي لأنَّ النّواحَ، الطّهورَ، الحجيجَ،
وتقديسَ نارِ الخرافةِ،
والرقصَ حولَ الذّبائحِ،
والرَّكْضَ خلفَ الطرائدِ،
والخوفَ منْ طَوْطَمٍ غامضٍ،
والتَعَلّقَ بالكوكبِ الحِرْزِ
بلا طائلٍ، أو سُدى..
أو الشّالُ إنْ حَزَّ جِيْدَ الغزالِ الذي
ذوّبتهُ السنابلُ في نظرةٍ للظباء..
كُّلّها نَبْضُ هذي المزاميرِ،
أو حَسَراتُ الرّبابةِ
إنْ أوغلت في البكاء.
أُغنّي لأنّي أنا صوتُ هذي الطبيعةِ
والناسِ،
ومرآةُ هذي المجرّاتِ إنْ غَرِقت
في الجِناس.
وإنَّ الطيورَ بلا نغمٍ
رَمْيةٌ في الهواء.
وإنّي أُغنّي لأنَّ الحياةَ
غناءُ الغِناء..
أُغنّي لأنّي ابنُ طيْبةَ والقُدسِ
والشامِ والمغربِ الشهداء،
وصَهْدِ اللّظى في ضِرامِ الدماء.
أنا لا أُغنّي، ولكنني قد تناسختُ
في العود، أو كنتُ جَمرَتَهُ
في الفِراء.
أنا الطيرُ في حُلم الغيمِ،
إنْ رقَّ.. يهمي
وإنْ دقَّ.. يشهق لوزُ البراري
على ضفةٍ من حرير الرّداء.
أنا ربُّ مَنْ نَعَفَ الضوءَ،
آياتُ مَن سجدوا للمحيط،
وسيّدُ مَنْ ذوَّبتهُ الكمنجةُ،
والوحيُ في دمعةِ الكستناء.
***
أُغنّي لأنّي أُحبُّ البلادَ
وليلَ الضفائرِ
والأمهات.
أُغنّي ليشرقَ عشبُ الصباحِ
ويعلو على الصمتِ صوتُ الجراحِ.
أُغنّي لأنّي أُحبُّ الإلهَ
وشهدَ الجِباهِ
ووردَ الصلاة.
أُغنّي لأنَّ الحياةَ بلا أيِّ لحنٍ.. ممات.
أُغنّي لأنّي أنا حَبَقُ النازفينَ على كلِ بابٍ
ومتراسِ نارٍ
وطينِ بساتيننا الهالكات.
ولي شَجَرُ البرقِ
فوق الشواهدِ والباكيات.
أنا مَن يُرَنِّقُ هذا السحابَ
بِرَعدِ الصواعقِ والعاصفات.
أنا مَنْ يُطَهِّرُ أرضَ البتولِ
برمّانةِ الصدرِ والهاتفات.
أُغنّي لأنّي ابنُ هذي الأساطيرِ
في بابلِ السِّحرِ والآلهات.
أُغنّي لأنّي وليدُ القصيدةِ والسيفِ
والشمسِ إنْ أشرقت في الجهات.
وأبقى أُغنّي
أُغنّي
أُغنّي
إلى أنْ تعودَ الحياةُ.. الحياةْ.
***
أُغنّي لأنَّ الصليلَ، النحيبَ، الرياحَ، الدعاءَ،
الصّدى..
كُلُّها نَسَغُ الكونِ في وترِ الكائنات.
أُغنّي لأنَّ المحبةَ والنورَ
والطفلَ والخيلَ والعشقَ،
وامرأةً من حليبِ النّدى..
كلّها فضّةُ النّاي التي كوَّنتها اللُّغات.
***
أُغنّي لأنّي أنا الرَّصْدُ والنهاوَنْدُ.
وزريابُ قد جاءني في المنام،
فأعطيتُهُ سادسَ اللّحنِ..
إنّي أنا كلُّ إيقاعِ مَنْ هللّوا للقصيدِ،
وأعطافُ مَن سَجعوا للبعيدِ.
وكنتُ، فجاءت بحورُ الخلّيلِ
لأُرضِعَها كالوليدِ،
وما كان هذا الخليلُ بنُ أحمدَ
أكثرَ مِن كاتبٍ للنشيدِ.
أنا أوّلُ القلبِ والحُبِّ،
مَنْ كانَ فيهِ الجوابُ،
أنا السقفُ والبابُ
والراسخُ المُستجابُ..
أنا في الحكاياتِ إرهاصةٌ للسؤالِ.
ولوني ملامحُ ثوبِ الخيالِ.
أنا إنْ حضرتُ يغيبُ السكونُ،
وأَحْضُرُ آلهةً في المِثال.
وأمشي نجوماً إلى صحوةِ الروحِ،
حتى إذا جلتُ فيها؛
أقمتُ الجنائنَ والأنهرَ الدافقات.
أنا الصوتُ والحرفُ والرْقصُ
إنْ مَوَّجَتْني القوانينُ في النيل،
أو فاضَ بي العُودُ فوق الفرات.
أنا القشعريرةُ في القمحِ،
والخمرُ في سُكَّرِ القَدِّ،
والموجُ في زَفَّةِ القُبّرات.
بقلم/ المتوكل طه