تأملات في الارتحال بين ربوع فلسطين من رام الله الى حيفا وبقاع أخرى

بقلم: رانية فهد

صباح الخير يا وطني صباحك عنبر وسكر...

 

مع خيوط الفجر الأولى وبعد أسبوع من العناء والعمل المتواصل وسفري بين الكتب والروايات والمقالات قررت أن يكون سفري في هذا اليوم يوم الثلاثاء إلى مسقط رأسي الذي أتوق إليه توق الظمآن إلى جداول المياه ... أجل إلى حيفا والناصرة وطبريا ...،  وبعد ارتشاف قهوتي تأهبت للإنطلاق في تمام السّاعة السّابعة صباحاً كانت وقفتي الأولى عند معبر قلنديا وذلك الحاجز الذي يقف الإنسان عنده وقفة الحائر المتأمل ... فبينما كنت واقفة أنتظر دوري لاجتياز ذلك الحاجز اللعين الذي يسلبنا حريتنا وكرامتنا ويخنقنا ويترك غصة أليمة  ...  إذا بذلك الصوت الخفي يداهمني مرة أخرى ... وإذا بجعبتي الكثير والكثير من الكلمات التي اعتدت أن أنثرها بطينة اللحظات  ...كيف لا والكلمات باتت أنفاس ثقيلة تطبق  على صدري ولا أرتاح إلا حين أفرغها ... كيف لا وكلماتي هي صمت الماضي وحديث روحيّ مليء بالوجوه والأحداث  ... بل براكين أغلقت عليها الأبواب وآن الأوان لإطلاقها للعنان ... بقلم يكتب ما نريد ، وبالشكل الذي نريد لا اختيار له سوى الانصياع لذواتنا الخانعة لشهوة الكتابة  ، فهناك أشياء إذا لم نواجهها بقوة وحزم ستوقعنا ونفشل .... فعلاً بقيت واقفة متأملة  أنتظر دوري وأخرجت دفتراً لأدون مشاهد ستبقى مغروسة في أعماق أعماق ذاكرتي ،  أجل دونت ما سمعته وشاهدته بأمّ عيني من عذابات ومعانات لأطفال رضع يبكون من شدة الحر ... لعمال يلهثون ويركضون  ، لكي لا يسرقهم الوقت لاجتياز المعبر قبل انتهاء ساعة المرور وهي التاسعة صباحاً ...لجحافل من كلّ حدب أو صوب ينتظرون أمزجتهم للعبور... بل لأصوات تصدح وتقول : حكم القويّ على الضعيف .. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : إلى متى ستبقى هاماتنا تعلوها الجراح   ؟؟

بعد اجتيازي للحاجز صعدت إلى الحافلة مرة أخرى ...وفعلاً انسلخت عن الواقع وبدأت تتقاذفني العبارات وشعرت بإلحاح شديد للكتابة والبوح وسرت في جسدي رعشة مفاجئة ... كيف لا وأقلامنا تلامس الجروحات الكامنة في نفوسنا ... كيف لا وهي نابعة من القلب لاستشعار ما تخفيه الحروف  من مشاعر وأحاسيس ... بل الكتابة تجعل منك إنساناً مختلفاً وتمنحك ثقة لا مثيل لها ... وبعد مرور ساعتين من الزمن إذا بحافلتنا تصل إلى الكرمل في حيفا...وهنا ابتدأت الحكاية ... أجل حكاية عشق ذلك الوطن المسافرفي الشرايين ، بل المستوطن في الفؤاد وبين حنايا الأضلع .. .. فشرعت أمتع نفسي بذلك الجمال الآسربأحضان تلك الطبيعة الخلاّبة وأشجارها الورافة الظلال...كيف لا والطبيعة هي الملاذ الذي نجد فيه السعادة بعيداً عن الصخب والضوضاء ،  وأيضاً مشهد تلك الجسورالمعلّقة وأنت تصعد فوقها لا بدّ لك أن تقول : فعلاً جسور معلقة كأحلامنا الفلسطينيّة المعلقة...وبين طيّات هذا الجمال الآسر ضاعت الكلمات وأرجها الفواح واغرورقت عيناي بالدموع ...فماذا أقول عنك يا وطني بعد ...؟!بعد ذلك كانت الوجهة إلى شاطئ حيفا الذي يأخذك بعيداًويلامس قرارة نفسك بومضة حزن تصدح وتقول : يا بحر مالك حزين يا شط مالك جريح ....  كيف لا وقد ذهبت مدينتي حيفا أدراج الرياح ... كيف لا وقد أصبحنا غرباء فيها وهم يمرحون ويلعبون .... أجل يسبحون ويمارسون الرياضة على شاطئها الجميل ونحن نأتي لزيارتها بتأشيرة فقط ...فجأة عاودني ذلك الصوت وقال لي : لن يتراجع فينا الشموخ ... وسنبني الحدائق في قلب أعيننا ، وبعطر كرامتنا سيشع نور الحرية... فما ضاع حقّ له من يطالب ... ثمّ كانت الجولة الأخيرة في هذا اليوم إلى مدينة طبريا ... أجل وما أدراك ما طبريا !!سحر جمال خيال يأخذك إلى عالم نوراني ... أجل يأخذك إلى عالم تصمت فيه ولا تبنس بكلمة واحدة ... إلى مشاعر تعبر من بوابة أرواحنا وتمضي بمجرد انتهاء اللحظة ،وليس لك إلا أن تنحني إجلالاً لقدسية هذه المدنية ..  ثم تلك السفينة في بحرها ، والتي أمضيت فيها قرابة السّاعة على أنغام عزف جميل يتسرب إلى الأحشاء.. ويجلو ما هو كامن في الأعماق...  متمنية أن يتوقف الزّمن عند تلك اللحظات الجميلة الآسرة ... تلك اللحظات التي اخترقت ذاكرتي والتي ألحت عليّ ، لأنزع كل دمعة وغصة   ولأقرر فيها قراراً فاصلاً حاسماً متجسداً في أن أحتفظ بمن كانوا معي في رحلة هذه الحياة في لحظات الحزن قبل الفرح ... أجل بمن كفكفوا الدمع...بمن أحسستُ في غيابهم أنّ جزءاً منّي قد غاب   ،...    وبالمقابل أن أنزع وأشطب من ذاكراتي المرهقة  أولئك الذين قابلوا الإحسان إليهم بنكران الجميل وتركوا فينا وجعاً لا يعلم به إلا رب العباد ، لذلك لا بدّ من عدم مراقبة المكان الذي لم يعد لك ، كيف لا وجزاء الاهتمام أصبح خذلان  ، أجل لا بدّ من النسيان الذي لا يأتينا ، وإنما نحن من نذهب إليه في هذا الزمن زمن العملات النّادرة ... ولأنه لكلّ بداية نهاية دقت ساعة العودة والرحيل معلنة نهاية هذه اللحظات الجميلة ...لحظات سفري وتجوالي في أرجاء وطننا الحبيب فلسطين وعدت إلى البيت في تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً بعد هذا اليوم الجميل الذي وثقت فيه ما رأيته بأمّ عيني وذلك انطلاقاً من مقولة المؤرخ عارف العارف : " وثّقوا كل حرف وكلّ كلمة لذلك الوطن المرقوم على صفحات قلوبنا ووجداننا جيلاً بعد جيل " أجل هذه الوقفة لا و لن تزول لأنها حيّة نابضة تعيش في وجداني وقلبي .....       

                                     بقلم : أ. رانية فهد..