في ظل ارتفاع درجات الحرارة في عدة مناطق من العالم ومنها منطقتنا تبرز الحاجة إلى أجهزة التكييف الهوائي، وحين يتمتع المرء بما توفره من برودة وراحة للجسد، يسأل بعض الناس: هذا العبقري الذي اخترع هذا الجهاز، والذي في دقائق معدودة يحيل القيظ في غرفة أو بيت أو قاعة إلى نسيم عليل، بل كأنك تشعر بالانتقال من قارة إلى أخرى فقد تحس بأنك انتقلت من الخليج إلى مناطق في جبال أوروبا أو غيرها، ما مصيره؟ هل سيدخل النار حقا؟ ويزيد هؤلاء المتنطعون في جرعة حماقة السؤال الاستفزازي: هل من المنطق والمعقول أن يدخل الجنة الشيوخ والوعاظ الذين يلقون مواعظهم تحت اختراعه في مساجدهم ومجالسهم، بينما هذا العبقري سيدخل النار؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
التطور والعقيدة
تحضرنا هنا قصة نبي الله هود -عليه السلام- الذي أرسله الله إلى قومه (عاد) ولننظر كيف وصف الله تعالى حالهم في القرآن الكريم:- "أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" (الشعراء 128-135). بل وفي سورة الفجر وصفت عاد بأنه (لم يخلق مثلها في البلاد) والآيات الكريمة أعلاه تظهر ما كان عليه القوم من تقدم ورفاهية وغير ذلك فهل أغنى عنهم من الله شيئا؟ إنه لمن المؤلم والمحزن أن نصل إلى هذه الحالة من الدفاع عما هو مسلّم به ومفروغ منه سلفا بسبب الهزيمة النفسية لبعض أبناء جلدتنا. والذين يستمرون بمزايداتهم المزعجة: حسنا من هو الذي أفاد الإنسانية أكثر: من اخترعوا العقاقير الطبية والأجهزة الإلكترونية وأجهزة التكييف والتدفئة أم الشيخ والواعظ الذي يتحدث عن الجنة والنار؟!
اللهم عافنا واعف عنا مما يخرج من هؤلاء القوم، وقد سبق لي أن قلت في مقال نشر هنا في مدونات الجزيرة في 2/10/2018 بوضوح: علماء الدين.. اتركهم مع أحكام الحيض واصعد أنت إلى المريخ! فلن أعود إلى هذه النقطة من هذه الزاوية لأننا الآن أمام شيء أخطر، وهو أن بعض الناس يشترط على الله جاهلا أو متعمدا، بينما نحن أمام القاعدة القرآنية الصريحة (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) وهناك آيات صريحة بعذاب أقوام بسبب رفضهم لرسالة الحق وهم في حالة تقدم وتطور منهم قوم عاد كما ذكرنا. ولن يجير فرعون من النار التي يعرض عليها غدوا وعشيا ما بلغت مصر في زمنه من تقدم في الطب (والسحر حتى) أو في الرصد الفلكي حتى تجرأ وطلب من هامان أن يبني له صرحا لعله يبلغ الأسباب فيطلع إلى رب العزة.. سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
اختراعات عسكرية ورأسمالية
وبعيدا عن هذا قليلا، فإن الاختراعات التي نقلت سكان الكرة الأرضية إلى حالة غير مسبوقة منذ أن هبط آدم -عليه السلام- وسكن الأرض وذريته من بعده، هي اختراعات غالبها لأسباب أمنية وعسكرية؛ فمن جملتها هذه الوسيلة التي نتخاطب عبرها ونتبادل الأفكار أي الإنترنت، فكما هو معروف بدأ استخدامها في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) قبل أن تتوسع حتى وصلتنا. فتنطح بعض من أبناء جلدتنا إلى حصر مرامي وأهداف وبواعث ودوافع الاختراعات في (خدمة الإنسانية وإسعادها) هو شيء وهمي بلا شك، تدفعهم إليه عوامل شتى منها الهزيمة النفسية كما ذكرت.
إن اختراع مادة (الأستون) على يد (حاييم وايزمان) قيل بأنها كانت من أسباب قيام بريطانيا بإصدار تصريح بلفور وما تلاه، فهل خطر في بال وايزمان (تهويمات) ستخرج من عرب ومسلمين بعد قرن حول الإنسانية والابتكار من أجل سعادتها؟ ثم إن الاختراعات مثلما جلبت الرفاهية فهي جلبت الاستعمار والانتداب والحروب والمجاعات، وأنتجت قنابل تجعل مساحات من هذه الأرض التي استخلف الله تعالى الإنسان فيها غير صالحة لحياة إنسان ولا حيوان ولا نبات.. فهل يندرج هذا تحت مسمى اختراع إنساني؟ أم سيتنطع القوم ويفرزون المخترعين الذين أفادوا البشرية بأنهم من أهل الجنة، ومن اخترعوا ما يدمر الحياة إلى أنهم من أهل النار مثلا؟
هل هذه وظيفتكم؟ وهل أطلعكم الله على الغيب، أم هل لديكم شيء من العلم تحاجون به؟
ثم ألا يوجد لدى الشخص المخترع والذي لا نشكك بقدراته العلمية وعبقريته أي نوازع شخصية وطموحات بالمال والشهرة، أو حتى قد يكون مكلفا من (جهة سيادية) بأن يبتكر شيئا ما لخدمة برامج أمنية أو اقتصادية أو غيرها؟ لماذا نستبعد هذا الجانب الحاضر بقوة فعلا، وقد علمنا ذلك من تاريخنا وحضارتنا كيف كان بعض الخلفاء والأمراء يعهدون إلى من يجدون به كفاءة أن يحل لهم مشكلة ما بابتكار جديد؛ ومن ذلك تنقيط المصحف الشريف، وقلم الحبر وغير ذلك؟
ويليس كارير عبقري استفاد
مخترع تكييف الهواء في أوائل القرن العشرين هو الأمريكي ويليس هافيلاند كارير (Willis (Haviland Carrier جلب اختراعه لشركته بضعة مليارات من الدولارات وتوظيف عشرات الألوف وتوسعت الحركة والنشاط التجاري وغيره إلى المناطق الحارة، فهل كان هدف كارير أن يدخل الجنة؟ وما شأننا في ذلك نحن أصلا، هل كان اختراعه ضمن ظروفنا ومن توظفوا وتحسنت حياتهم هل كانوا من أمتنا؟ ألم يكن اختراعه الذي حقق به شهرة ومالا في بلاده وبيئته ووصل إلينا بحكم طبيعة الأشياء والسيرورة البشرية؟
طبعا أنا آخذ الرجل عينة لأنه يحضر القوم ذكره، حتى عند من لم يسمع باسمه ويتنطع فقط لكي يقول بزعمه أنه من أهل الجنة، وإلا على الأقل فإنه إن كان سيدخل النار فسيدخل الشيوخ كذلك معه! أي سفاهة في الطرح وأي منطق أعوج يتحكم بعقول هؤلاء، ولماذا هذه المقارنات الممجوجة؟ على كل العبقري (كارير) هو دينيا ينتمي إلى الكنيسة المشيخية وسياسيا إلى الحزب الجمهوري والله وحده من يملك مصيره والحكم عليه، أما القول بأن الشيوخ يصفون فئات بأنهم في ضلالة أو كفر فهذا له مقاييس شرعية لا يمكنهم تجاوزها لإرضاء أهوائكم، فهناك أحكام قطعية على العقائد والأعمال واجبهم تبيانها، وأما يوم القيامة وما سيحدث فيه فلستم أنتم من يقرر، وكلامكم فيه جرأة على شرع الله، أو اشتراط قبيح بعيد عن الأدب مع الله الجبار!
تعاسة الإنسان لرفاهية إنسان
شاهدت مرة تقريرا عن الأطفال العاملين في ظروف شاقة في مناجم استخراج مادة (الكوبالت) في دولة الكونغو، هذا البلد الأفريقي الفقير-الغني وظروف الأطفال الصغار هي عبودية قد لا تجدها في عصور خلت، حيث العمل الشاق في ظروف خطرة وصعبة مقابل دولار واحد في اليوم، وهذه المادة تستخدم في صناعة الأجهزة التي نحملها بأيدينا. طبعا نحن دفعنا الثمن أضعاف أضعاف تكلفة الإنتاج بمعنى أن المخترعين فوق استغلالهم واستعبادهم أطفال الفقراء (يا من تزعمون بأنهم يخدمون الإنسانية) لا يوزعونها علينا مجانا، فنحن ندفع مقابل اقتناء أي شيء ثمنا باهظا. فلا إنسانية في الأمر مطلقا بل رأسمالية متوحشة تأبى أن تمتلك شعوب ودول حرية التصرف بقرارها السياسي وبالتالي التحكم بثرواتها كي يظل أرباب الشركات ومن يعملون معهم من عباقرة المخترعين يتربعون على عرش الثروة والشهرة وهندسة المجتمعات وفق مصالحهم.
سري سمور
كاتب ومدون فلسطيني