اليوم الثامن من تموز يرحل عاشق البرتقال الحزين أبو فايز غسان كنفاني للمرة السابعة والاربعين ، وسيظل رحيله المتكرر جرحًا لا سبيل إلى رأبه ، كأنما الثامن المشؤوم من تموز هو الموعد الدوري مع اللوعة والأسى والذكرى الموجعة .
فقد كان استشهاد غسان كنفاني الضربة المؤلمة التي تلقتها المقاومة والثورة الفلسطينية والثقافة الانسانية والديمقراطية والتقدمية الفلسطينية على مختلف المستويات ، فهو المناضل السياسي الدؤوب ، والكاتب المقاتل اللامع ، والصحفي القدير المبادر ، وهو الشاب اليافع ابن السادسة والثلاثين ربيعًا .
غسان كنفاني قطب من اقطاب الأدب الفلسطيني المقاوم الملتزم بالقضايا الجماهيرية . ولد لأسرة فقيرة كادحة في مدينة الجزار والأسوار التي لا تخاف هدير البحر ، عكا الجميلة ، العام 1936 مع بداية الثورة الفلسطينية ضد قوى الصهيونية والاستعمار البريطاني . وتعلم في كلية الفرير بيافا ، وفي العام 1948 نزح الى لبنان ثم التحق بأفراد اسرته في دمشق ، وعاش حياة قاسية ولكنه أقبل على الدراسة ليلًا . وبعد ان نال الشهادة الثانوية غادر دمشق الى الكويت سنة 1955 وعمل في التدريس وواظب اثناءها على الدراسة الجامعية ، فانتسب الى كلية الآداب بجامعة دمشق وأعد دراسة لنيل الشهادة الجامعية بعنوان " العرق والدين في الادب الصهيوني " ثم عاد الى بيروت وعمل في صحيفة " الحرية " الاسبوعية ، وبعد ذلك اوكلت اليه مهمة رئاسة تحرير صحيفة " المحرر " اليومية التي كانت تعكس وجهة نظر الناصرية والقوى التقدمية والثورية في العالم العربي ، وفي خريف العام 1967 انتقل للعمل في صحيفة " الأنوار " الأسبوعية وفي الوقت نفسه بدا يلعب دورًا قياديًا في النشاط الاعلامي الفلسطيني . وفي العام 1969 ترك غسان العمل في الصحيفة وانتقل للعمل في مجلة " الهدف " الأسبوعية السياسية .
وفي الثامن من تموز عام 1972 اغتيل بوضع خمسة كيلوغرامات من المواد المتفجرة في سيارته فأودت بحياته مع ابنة اخته لميس .
وقد أثار استشهاده سخط واستنكار وحزن الاوساط الادبية والفكرية والشعبية والسياسية العربية الفلسطينية ، وأبنه العديد من الكتاب والشعراء والصحفيين الفلسطينيين والعرب ، واشاد جميعهم بمآثره على الصعيدين الجماهيري الكفاحي والثقافي والأدبي الفني .
يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش : " جميل انت في الموت يا غسان .. بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر ، لقد انتحر الموت فيك .. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ اكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة . اكتمل الآن بك واكتملت به ونحن حملناكم انت والبطن والموت ، حملناكم انت والبطن والموت ، حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الاناشيد . ايها الفلسطينيون .. احذروا الموت الطبيعي . هذه هي اللغة الوحيدة التي تمرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني ، ويا ايها الكتاب .. ارفعوا اقلامكم عن دمه المتعدد . هذه هي الصيحة الوحيدة التي يقولها صمته الفاصل بين وداع المنفى ولقاء الوطن . ولا يكون الفلسطيني فلسطينيًا الا في حضرة الموت . قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يترجلوا ويعودوا من رحلتهم لأن غسان كنفاني يبعثر اشلاءه ويتكامل . لقد حقق التطابق النهائي بينه وبين الوطن " .
كان غسان كنفاني كاتبًا ثوريًا وسياسيًا بارزًا مسلحًا بالفكر العلمي الاشتراكي . وكان يمقت الشعارات الجوفاء الخالية من المضامين النضالية الحقيقية ، مهاجمًا الانتهازية والانتهازيين ، متصديًا للوصوليين والنفعيين ، ولذلك احبته الجماهير الشعبية الفلسطينية ، وحظي بتقدير رفاقه وشعبه بقطاعاته واتجاهاته كافة .
اغنى غسان المكتبة الفلسطينية بالعديد من القصص والروايات والدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية وهي : " في الأدب الصهيوني ، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال ، أدب المقاومة في فلسطين المحتلة ، أرض البرتقال الحزين ، أم سعد ، الباب ، رجال في الشمس ، سقوط الجليل ، عائد الى حيفا ، عالم ليس لنا ، عن الرجال والبنادق ، ما تبقى لكم ، موت سرير رقم 12 ، الأعمى والأطرش ، اطفال غسان كنفاني ، العاشق ، القبعة والنبي ، جسد الى الأبد ، المدفع ، وثورة 1936 – 1939 في فلسطين " .
وما يميز كتابات غسان كنفاني انحيازه الى جانب الفقراء والكادحين المسحوقين من أبناء المخيمات الفلسطينية ، والريف الفلسطيني ، والتحامه العضوي بالقضية التي عاشها حتى الشهادة . وعن ذلك يقول غسان عن نفسه : " في البداية كنت اكتب عن فلسطين كقضية قائمة بحد ذاتها ، عن الاطفال الفلسطينيين ، عن الانسان الفلسطيني ، عن آمال الفلسطينيين بحد ذاتها ، كأشياء منفصلة عن عالمنا هذا مستقلة وقائمة بذاتها كوقائع فلسطينية محضة . ثم تبين لي أني اصبحت ارى في فلسطين رمزًا انسانيًا متكاملًا . فأنا عندما اكتب عن عائلة فلسطينية فإنما اكتب في الواقع عن تجربة انسانية ولا توجد حادثة في العالم غير متمثلة في المأساة الفلسطينية وعندما اصور بؤس الفلسطينيين فأنا في الحقيقة ، استعرض الفلسطيني كرمز لبؤس العالم اجمع ".
روايات وقصص غسان كنفاني بمجملها تؤرخ القضية الفلسطينية بكل ابعادها السياسية والاجتماعية ، والاحوال المأساوية التي يعيشها الفلسطيني في الشتات والمنافي القسرية الى حالة التمرد على الصمت والركود التي تلف القضية ثم الى الثورة على الاوضاع التي اوصلت الفلسطينيين الى هذا الدرك وقطع الصلة بالماضي المر والتطلع الى المستقبل الجميل الوضاء الذي يستعيد فيه الانسان الفلسطيني انسانيته وكرامته وهويته .
كتبت ليانة بدر تقول : " لقد صاغ غسان كنفاني انتفاضات الحلم الفلسطيني مؤشرًا حقيقيًا على انتهاء ايام القهر والهزيمة . ومن " ام سعد " الى " عائد الى حيفا " الى " الرجل والبنادق " تراجعت مساحات القهر الشاسعة التي حاولوا كتابتها على جبين الشعب الفلسطيني . وفي جميع كتاباته عانق غسان واقع التشرد والاقتلاع الذي حاولوا ان يرسموه اغلالًا وفجيعة في تاريخنا العربي الحديث كي يخرج منه الى جدل الواقع والتاريخ والى ضرورة الثورة المقبلة تعطي نقيض الذل والقهر والحرمان . وفي كتابات غسان كنفاني حضرت فلسطين كما يجب ان تحضر . فمن واقع شعبه اليومي والحياتي اعطيت للكتابة الحقيقية على يديه مكانها وجدارتها الاصلية واصبح ابطاله رجالًا يتلاقون مع الهزيمة كي يقهروها ولا تقهرهم ، كي يواجهوها دون ان تبتلعهم " .
وفي رواية " رجال في الشمس " يحاول غسان كنفاني رسم رحلة الفلسطيني المرة من صقيع المنفى الى لظى الصحراء الممتدة بين البصرة والكويت ، ينقلهم في الرحلة فلسطيني فقد رجولته في حرب فلسطين مهربين في سيارة صهريج ماء فارغ نحو بديلهم المكاني عن الأرض طمعًا في تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي والنفسي . لكن البديل في النهاية لم يكن الا الموت ، والموت اختناقًا في الصهريج وبسواعد اعجز من ان تدق جدران خزان الماء الذي يحتويهم هاربين لتجد جثتهم نهايتها وقبرها في ركام مزبلة صحراوية لا تسمع النداء الذي اصبحت تردده الصحراء .. لماذا لم تدقوا جدران الخزا ن ؟؟
اما في " ام سعد " فيمجد غسان الانسان المسحوق الكادح الذي حمل راية المواجهة والمقاومة ويستشهد دفاعًا عن الوطن والشمس والفرح . وام سعد امرأة حقيقية عرفها غسان وهو إذ يتعلم منها ويكتب عنها ولها . وهي تمثل المرأة الفلسطينية التي تمتلك وعيًا سياسيًا ثوريًا وتشارك في المعركة النضالية التحررية من اجل اقامة الوطن الحر .
وفي " عائد حيفا " يحدثنا غسان عن زيارة يقوم بها فلسطيني مع زوجته الى بيتهم في حيفا الذي تركوه قبل عشرين عامًا ، بعد ان اتاح لهم الاحتلال العام 1967 فرصة زيارته ، باحثين عن طفلهم الذي خلفوه وتركوه وراءهم في ذلك البيت عند سقوط المدينة في العام 1947 فيتفاجآ حين يجدان ان الطفل قد اصبح ضابطًا في الجيش الاسرائيلي ومدافعًا عن الصهيونية والاحتلال ، لكنهم يجدون العزاء في ابنهم الذي يطمح للالتحاق بحركة المقاومة الشعبية الفلسطينية .
وفي قصة " العرس " التي هي البندقية فيصور لنا حب أحد المقاتلين الفلسطينيين لبندقيته التي تمكن من الحصول عليها بعد مهاجمة موضع صهيوني، وينتزعها بأسنانه من يد أحد الجنود القتلى ، غير ان بعض الأشخاص يتمكن بحيلة من سرقة بندقيته ، ويظل يبحث عنها الى أن يجن بها .
وفي مجموعته " عن الرجال والبنادق " الصادرة في بيروت عام 1968 نجد عودة غسان لممارسة فن القصة القصيرة ، والدافع لهذه العودة هو انتكاسة الخامس من حزيران 1967 ، والرغبة في ملاحقة ومواكبة الأحداث ، ملاحقة سريعة كملاحقة الصحفي للخبر اليومي ، والرواية تكاد تكون قاصرة عن المواكبة في مثل هذا الحال المتأزم ، إذ ان الرواية نتاج التأني ، وهو بحاجة الى حرف يحاكي دفقة الرشاش وحدة نصل السكين .
وتجيء " برقوق نيسان " صيغة متقدمة في التقنية القصصية الحديثة لغسان كنفاني ، وهي من ناحية أسلوبها تعتمد طريقة جديدة في كتابة الرواية ، حيث تعتمد على سياق متواصل من الهوامش ، التي تساعد على فهم الخلفيات التي تنتج عنها أحداث القصة الأساسية وتصرفات شخوصها وعلى هذا الاساس تأتي واحدة من محاولات غسان لاقتحام عوالم جديدة في الرواية العربية المعاصرة .
غسان كنفاني لم يمت ، فهو خالد في الذاكرة الفلسطينية الخصبة بأثاره وأعماله الأدبية الرائعة ، وإذا اعتقد أعداء الكلمة انهم نجحوا في اغتيال صوته الثوري الفلسطينية واخماد كلمته الملتزمة الصادقة فهم مخطئون وواهمون ، فهو عائد إلى عكا ، وسيبقى يقرع جدران الخزان ..!
بقلم/ شاكر فريد حسن