علمانيي وطني كانوا كلما اصطدموا في أدبيات قادة الحركة الصهيونية بفكرة لها علاقة بالبُعد الديني كانوا تلقائياً يفسرونها تفسرات غير صحيحة من خلال علاقتهم العدائية بدينهم ويقنعون أنفسهم بصحتها، حتى غدت تلك التفسيرات المغلوطة هي المفاهيم الشائعة لدى كل المؤرخين وكتبة الرسائل العلمية والمثقفين وعامة القراء. ومن تلك الأبعاد الخطيرة في الفكر الديني الصهيوني التي استعصى عليهم استيعابهم له، وإدراك مخاطر إسقاطهم منهجيتهم العلمانية في فهم الإسلام على الحركة الصهيونية، أنه لا يوجد علاقات فردية بين الله والأفراد في اليهودية، ولكن كل العهود والعقود والمواثيق من الله التي أعطيت لليهود، أعطيت لهم كشعب لا كأفراد، لذلك لا خصوية في اليهودية لنبي أو فرد، لذلك اليهودية (دين وقومية وجنسية)!
لا صهيـونيـة بـدون التــوراة
اليهود يعتبرون أن الذي حافظ على وحدة (شعب اليهود قومياً) هو الدين اليهودي، حتى في الأيام التي لم يستطع فيها ذلك (الشعب) استخدام لغته (القومية العبرية) لغة التوراة، أو أن يعيش في وطن واحد، (القومية اليهودية) لا تقوم على أساس التأثير المشترك بين (الجنس والتربة) كما يقول (يحيل ميخائيل بانيس)، الذي يرى أن هناك فرق بين الشعب اليهودي وغيره من المجموعات العرقية، فالشعب اليهودي لم يأتِ "في البدء إلى هذا العالم كجماعة مستقلة وبطريقة عادية كنتيجة للتأثير المشترك للجنس والتربة ولكنه جاء كشعب له ديانته المستقلة، مرتبطاً بميثاق يقضي باتباع تعاليم هذه الديانة"، ويرى أيضاً: "يمكن أن يكون لأي شعب قومية منفصلة عن الدين، ولكن ذلك لا ينطبق علينا نحن اليهود، إن اليهود يمقتون مثل هذه القومية التي لا يمكن أن تتحقق لأن ليس لها جذور في واقعنا، وما هي تلك القومية اليهودية المنفصلة عن الدين اليهودي؟ انها قاعدة جوفاء ليس فيها سوى تعابير منمقة... وبالنسبة للصورة الفكرية لـ(لقومية اليهودية) أي أساس سيكون لها في الواقع عدا وحدة الشعب (اليهودي) مع توراته ودينه"!
ويقول مارتن بوبر: "إن إسرائيل تتلقى تجربتها الدينية كشعب، وليس النبي وحده الذي تشمله عملية الوحي بل الشعب ككل، فمجتمع إسرائيل يعيش الوحي كالظاهرة واحد، الوحي كتاريخ والتاريخ كوحي. إنه كشعب فقط يستطيع أن يسمع ما قدر له أن يسمع. إن وحدة القومية والإيمان التي تشكل أساس وحدة إسرائيل الخاص هي مصيرنا. ليس بالمعنى النظري فحسب، ولكن على الصعيد الإلهي". ويرفض المفهوم العلماني للقومية: "ليست إسرائيل أمة كبقية الأمم ولم تكن يوماً كذلك حتى عندما كان يتمنى ممثلوها أن تكون كبقية الأمم خلال عصور معينة، وهي شعب ليس كبقية الشعوب لأنها الشعب الوحيد الذي كان منذ بداية تاريخه أمة ومجتمعاً دينياً في الوقت نفسه، ففي الساعة التاريخية التي التقت فيها قبائل إسرائيل لتشكل شعباً حامل مشعل الوحي. والعهد الذي اتخذته قبائل إسرائيل فيما بينها والذي من خلاله قامت (إسرائيل) كان أيضاً عهداً مع الله" ... (وأي أمة على الأرض مثل شعبك إسرائيل) (صموئيل الثاني 7:23) ... لقد كانت إسرائيل وما تزال شعباً ومجتمعاً دينياً في الوقت نفسه، وأن هذه الوحدة هي التي مكنتها من العيش في المنفى هي لم تقاسي أمة أخرى مثلما قاست وذلك لفترة دامت أكثر مما دام الاستقلال. إن من يقطع هذا الرابط يقطع شريان الحياة عن إسرائيل"!
ويؤكد اليهودي الفرنسي (أندريه شوراقي) أن التحالف الثلاثي بين الإله والشعب والأرض تحالف قهري وإجباري غير قابل للانفصام: "تتميز اليهودية بالزواج بين إله هو إله سيناء، وشعب هو إسرائيل وأرض هي الأرض المقدسة. إن تاريخ اليهودية هو تاريخ ثالوث: فالرسالة هنا لا يمكن فصلها عن الشعب الذي يتسلمها وهذا الشعب لا يمكن تصوره إلا بالعلاقة بأرضه، هذا التحالف الثلاثي قهري وإجباري بقدر ما هو غير قابل للانفصام".
حتى الارتباط العضوي الواضح بين (الديانة اليهودية) و(القومية اليهودية) وهي (الثقافة اليهودية) لم يجدوا له تفسيراً إلا كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: بالنسبة لليهودي المتدين هي دين، أما بالنسبة لليهودي العلماني هي موروث ثقافي! علماً أن التعريف الغالب للثقافة: هي الدين عندما يتحول إلى سلوك وممارسة! لقد تجاهلوا بشكل فاضح التطابق بين الدين اليهودي و(الثقافة اليهودية)، ومعروف أن الدين هو العقيدة، وأن الإيمان أو الثقافة هو الممارسة! ما لم يدركه علمانيي وطني أدركه حاخامو اليهود وقدموا تفسيرا منطقية رداً على وادعاءات علمانيي وطني أن قادة الحركة الصهيوني علمانيين وملحدين، وأن الحركة الصهيونية معادية للدين اليهودي!
الحاخام (سولومون شيختر) يؤكد على عدم الفصل بين الشعور (القومي الإسرائيلي) وإحياء الدين اليهودي: "إن حكمائنا أنفسهم قد عبروا عن ذلك التطابق بين العناصر الأممية و(القومية اليهودية). فهم يعلنون ذلك بالاستشهاد بقوله تعال: (إنني لن أدخل أورشليم السماوية حتى تأتي إسرائيل إلى أورشليم الأرضية)". وأضاف: "إن الصهيونية مثل أعلى، ولذلك لا يمكن تعريفها. ولهذا السبب فإنها خاضعة لتفسيرات عديدة وقابلة لأشكال مختلفة، يمكن أن تعني بالنسبة لواحد بعث الوعي (القومي اليهودي) ولآخر بعثاً دينياً، بينما بالنسبة لثالث فإنها يمكن أن تكون طريقاً يوصل إلى (الثقافة اليهودية)، ولرابع يمكن أن يشكل الحل النهائي والوحيد للمسألة اليهودية. وبسبب هذه الجوانب المتعددة استطاعت الصهيونية أن تجمع ضمن برنامجها عناصر متشعبة تمثل يهود العالم أجمع وتمثل تقريباً جميع صنوف الثقافة والفكر كأي حركة عالمية عظيمة أخرى". كما اعتبر أن: "الغالبية العظمى من الصهيونيين تبقى مخلصة لفكرة صهيون وللقدس التي يشير إليها التاريخ والتقاليد والعواطف اليهودية بشكل عام. ورداً على عدم تدين قادة ومفكري الصهيونية، قال: "إن المأخذ على الصهيونية بأنها غير روحية لا معنى له ... فالتهمة هذه قديمة قدم اليوم الذي أصبح فيه اسم الفريسيين تعبيراً، وأنه من المتوقع أن يحدث الشيء نفسه للصهيونيين. إن الشخص المناهض للناموس هو الذي يعتبر نفسه وريثاً لصفة الروحانية بينما القديس الحقيقي عفوياً وصادقاً في أعماله لدرجة أنه لا يشعر بأن لديه هذه الصفة وحتى لا يذكرها أبداً".
أما الحاخام (إبراهام إسحاق كوك) فقد اعتبر أن جيله الحاضر - الحركة الصهيونية - هو "الجيل الذي تحدثت عنه النبوءة على أنه ينتمي إلى عصر مجيء المسيح المنتظر". ورد الحاخام (صموئيل موهيليفر) على الحاخامات الذين كانوا يرون أن الحركة الصهيونية تتناقض مع عقيدة الإيمان بالمسيح، بقوله: "ويعتقد بعض هؤلاء الحاخامين أن القومية تتناقض مع إيماننا بقدوم المسيح، إنني أود أن أعلن بأن ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق لأن أملنا وإيماننا كان دائماً ولا يزال هو أن مسيحنا المنتظر سيأتي ويجمع إسرائيل المشتتة ليسكن أبناؤها في بلدهم بدل أن يظلوا هائمين على وجه الأرض ينتقلون من مكان لآخر. وبدلاً من أن نكون موضع احتقار وسخرية في عين الشعوب ستحترمنا وتمجدنا كل شعوب العالم، هذا هو إيماننا وأملنا الذي أعرب عنه أنبيائنا وحكماؤنا طيبوا الذكر وهو ما يتمسك به شعبنا".
وأخيراً تم الكشف عن الحقيقة الدينية للصهيونية في (قانون القومية اليهودية) في كيان العدو الصهيوني، الذي اعتبره أستاذ القانون البروفيسور مردخاي كرمنيتسر: "ًوضع حداً لـ(إسرائيل) "كدولة يهودية ديمقراطية" تلتزم بمبادئ "وثيقة الاستقلال" وبالقيم الليبرالية العامة، ويخلق بالمقابل دولة يهودية، قومجية، دينية مناهضة للقيم الإنسانية والليبرالية"!
المنهجية العلمانية نتائجها واحدة
واسمحوا لي أن أقدم نموذجاً للقراءة العلمانية مع احترامي لشخص البروفيسور عبد الوهاب المسيري ومواقفه الشخصية القوية كرجل مبدأ، وإن اختلفي معه في القراءة لا يقلل من قيمة ما قدمه من إنتاج علمي عن الموضوع نفسه. عام 1979 عندما كان ماركسياً أعتبر الحركة الصهيونية ذات مضمون ديني، وحركة رجعية عميلة لـ(لاستعمار)، واعترف أن الإطار العلماني لـ(لقومية اليهودية) محتواه ديني وجوهره أسطوري ديني، وأن اليهودية التقليدية واليهودية المحافظة هما نفس اليهودية ولكنهما ارتدتا الزي العلماني ظاهراً واستخدمتا نفس الأساليب والأدوات العلمانية للحركة اليهودية الإصلاحية (الهسكلاه) من أجل أن تُفشلا خططها، ويحولا دون سلخ اليهودي عن انتمائه الديني. فكتب: "الفكر القومي اليهودي رغم علمانية محتواه الظاهر فإن بنيته تجسد محتوى غيبي واضح (خاصة وأن التراث اليهودي لا يفرق بين ما هو قومي وما هو مقدس) وأن علمانية الصهيونية لم تكن إلا مضمون فكري لا يؤثر في البنية الأسطورية، وهذه حقيقة تبينها المتدينون والرجعيون وحدهم، ولذلك فقد دخلوا في تحالفات مع الصهاينة العلمانيين مطمئنين إلى أن الغلبة ستكون لهم في نهاية الأمر. وقد بين مسار التاريخ اليهودي في العصر الحديث أن توقعاتهم كانت في محلها وأنهم لم يخنهم التوفيق".
وأضاف موضحاً: "بينما يصر الأرثوذكسي على مقولة الدين اليهودي هو (القومية اليهودية)، وأن (القومية اليهودية) هي الدين يحاول المحافظون تمويه هذه الحقيقة والتخفيف من حديتها بعض الشيء بالحديث عن روح الشعب المقدسة. وبجعلها هي مصدر القداسة بدلاً من الله. إن اليهودية المحافظة هي اليهودية التقليدية بعد أن ارتدت زياً علمانياً وهذا هو جوهر الصهيونية وقد اضطرت اليهودية المحافظة والصهيونية إلى ارتداء هذا الزي العلماني وإلى استغلال أساليب الهسكلاه لينجحا في إحباط مثلها وإفشال محاولتها سلخ اليهودي عن انتمائه القومي الأسطوري".
وعندما تحول عن الفكر الشيوعي أصبحت الحركة الصهيونية عنده حركة سياسية علمانية استغلت الدين اليهودي لتجنيد اليهود خدمة للمشروع (الاستعماري) الغربي. وذلك أمر طبيعي لأن تحوله بقى في اطار الفكر العلماني نفسه، الذي يفصل بين الدين والسياسة وشئون الحياة الأخرى، لذلك تبقى منهجيتهم في الكتابة نفسها رافضة لأي دور للدين في أي شأن من شئون الحياة أو العلم!
الديانة اليهودية جنسية لليهودي
في لقاء له مع موقع (محيط الالكتروني)، أجاب عن سبب اهتمامه بالصهيونية: أنه سأل صديقة يهودية كانت تدرس معه في أمريكا عن جنسيتها؟ فأجابت: "أنا يهودية"، فقلت لها: اليهودية ديانة وليست جنسية، فبغاتتني قائلة: "يبدو أنك لا تعرف أي شئ عن اليهودية"! وبدل أن ينطلق من حيث يفهم اليهودي يهوديته في بحثه ودراسته انطلق من فهمه هو كعلماني لليهودية كدين وليس جنسية. وخلص إلى ما جمعه في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية! وعلى الرغم من اعترافه في مقالة له في (صحيفة الاتحاد الإماراتية، بتاريخ 19/1/2003، بعنوان "صهيونية ضد اليهود واليهودية")، بأن اليهودية بالنسبة لليهودي دين وجنسية، إلا أنه يرفض الاعتراف بذلك صراحة ويجعل منها رؤيته! فقد كتب:
والملاحظ أن الرؤية الصهيونية، التي تعكس تلك الكتابات والأقوال، (يقصد أقوال قادة الحركة الصهيونية عن تحقير اليهودية واليهود)، تستند إلى الأسس نفسها التي تقوم عليها نزعات معاداة اليهود واليهودية، فنقطة الانطلاق الأساسية عند الطرفين هي أن ثمة طبيعة يهودية تميز اليهود عن غيرهم من البشر، وهي طبيعة ثابتة لم يطرأ عليها أي تغيير على مر التاريخ، ولا تختلف باختلاف السياق الحضاري والثقافي الذي يتواجد فيه اليهودي، أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي الذي يتبوؤه. ومن ثم فلا فرق بين يهود اليمن في القرن الثامن عشر، مثلاً، ويهود الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر القرن العشرين، أو بين عنصر إرهابي مثل (مناحيم بيغن) ومفكر مناهض للصهيونية مثل (ناعوم تشومسكي). ويؤدي ذلك بدوره إلى الحديث عن وحدة يهودية تشمل كل الجماعات اليهودية في كل زمان ومكان.
وبالمثل، فإنه ثمة تاريخاً يهودياً مستقلاً عن تاريخ البشرية، وهو تاريخ متصل يسير على وتيرة واحدة ولا يعرف الانقطاع، وجوهره هو تفرد اليهود، من جهة، والعداء الأزلي الذي يكنه الأغيار لهم، من جهة أخرى. وأمام وضع كهذا، يصبح اندماج هؤلاء اليهود في مجتمعاتهم مستحيلاً، ويصبح من الضروري التخلص منهم إما بعزلهم خلف الأحياء المغلقة (الجيتو)، وإما بتهجيرهم إلى أرض ما خارج أوطانهم، حتى وإن استدعى ذلك اقتلاع أصحاب الأرض الأصليين، وإما بالقضاء عليهم فعلياً كما هو الحال في التجربة النازية. انتهى.
أوردت ما كتبه حرفياً مع تحفظي على بعضه لأبين التناقض في الفهم ولي عنق الحقيقة، فهو يؤكد على ما قالته له زميلته اليهودية الأمريكية "يبدو أنك لا تعرف أي شئ عن اليهودية"، وذلك في قوله: "... ويؤدي ذلك بدوره إلى الحديث عن وحدة يهودية تشمل كل الجماعات اليهودية في كل زمان ومكان"!
أختم الحلقة بما خلصت له الدكتورة (منى كاظم) بأن الحركة الصهيونية لم تكن وليدة فكرة قومية غريبة عن أوساط اليهود المتدينين بل هي ثمرة جهودهم عبر قرون طويلة، وما "الصهيونية إلا الرداء الحديث للأمل المسيحاني القديم الذي حافظ اليهود على إحيائه خلال العصور الماضية إنه الأمل الذي يهدف إلى تحقيق شقين – كما يقول الأنبياء – فهو يهدف إلى إعادة اليهودي لحياته القومية في أرضه الوطنية في فلسطين كما أنه يهدف أيضاً إلى إعادة إنشاء إسرائيل الذي يساعد على إعادة خلق البشر جميعاً".
التاريخ: 10/7/2019
بقلم/ مصطفى إنشاصي