فارق شاسع في المفاهيم يضاهي الفارق الشاسع زمنيًا، بين الفهم العام لمفاهيم العقد السابع والعقد الثامن وكذلك العقد التاسع من القرن الماضي، والعقدين الأول والثاني من القرن الحالي، لمفهوم المقاومة، بل للعديد من المفاهيم التي ترعرعنا عليها، وكانت تلقن لنا كابجدية ثابتة لا يمكن زحزحتها عن عقائدها الراسخه التي كانت تستمد من طبيعة ونوعية الظروف الموضوعية والبيئية، والإستراتيجيات الثابتة في الوعي العام سواء للقيادات والنخب أو للعامة من الشعوب التي كانت تقف كالطور المنضود ضد أي محاولات للشذوذ عن هذه القواعد، وخاصة في واقعنا الفلسطيني المقاوم الراسخ الثابت المؤمن بأن حقه ثابت وحتمي، بل كان القتل والتصفية والتخوين هو السائد أمام أي محاولات للشذوذ عن هذه القواعد، ومنها على سبيل المثال (الكفاح المسلح) والفهم الرئيسي للمقاومة، والعقيدة الراسخة لنوعية هذه المقاومة وجذورها، لذلك كان الحديث المتصل بين كل الفئات والشرائح حتى بين الفئات البرجوازية الرأسمالية متصل ومتقد حول تلك الفكرة والعقيدة المؤمنة بأشكال النضال الرئيسة، وعقيدة المقاومة الحتمية التي لا حياد عنها، وتاجها (الكفاح المسلح).
ورغم التحولات الموضوعية والواقعية التي أصابت العقائد والإيمانيات الإستراتيجية على مستوى المتغيرات التي شهدتها الساحات الدولية التي صدمت بانهيار المنظومة الإشتراكية التي كانت تعتبر المنظومة الثورية للمضطهدين في العالم، وما تبعها من انهيار مفاهيمي شامل، وكذلك الساحة الإقليمية التي بدورها شهدت تغيير في طبيعة الأنظمة القومية العربية التي كانت تبني سياساتها على أساس الوطن والقومية وحجم التجديد المفاهيمي لمعظم القضايا الرئيسية، وخاصة القضية الفلسطينية التي كانت تعتبر رأس الحربة والمحظور الإقتراب منها، أما على المستوى المحلي الفلسطيني فقد استبدلت وانحرفت بوصلة العقيدة الثابتة مع توقيع تفاهمات اعلان المبادئ أوسلو، ودخلت العديد من المفاهيم الجديدة في الوعي اليقظ للأجيال الناشئة، أهمها المقاومة الشعبية، المقاومة الاقتصادية...إلخ من المفاهيم، واصبحت المقاومة المسلحة تعتبر متطلب لحظي كأحد ضرورات ردة الفعل، وخدمة للأهداف السياسية.
هذا التصور العام للتغيير في الفهم والوعي العام لقواعد الإشتباك، ومؤسسة المقاومة كأحد أولويات العمل الرئيسي في حياة القوى والمنظمات المسلحة، التي فقدت أهم نخبها السياسية القيادية، ورؤوس هرمها الراسخه الثابتة، وإعادة تشكيل هذه النخب والقيادت وفق متطلبات الحالة، فتحولت بعض الأحزاب المسلحة لأحزاب وقوى تقليدية تتعامل مع واقعية المرحلة فطغى عليها الرؤية السياسية للتعامل مع مفرزات الواقع الدولي والإقليمي، وفقدت بوصلة العمل الفلسطيني استقلاليتها وقوتها معًا التي عرف بها خلال عقود العمل النضالي الفلسطيني – العربي. وتراجعت التفاعلات اليقظة مع البندقية إلى تفاعلات مجتزئة وفق الحالة والأهداف السياسية، وتحول (الكفاح المسلح) إلى فعل خدماتي يستهدف خدمة الهدف السياسي لممارسه أو للقوة التي تمارسه بعيدًا عن الفهم العميق(التحرير) وهو نتيجة حتمية وطبيعية لتغيير الفهم العام في الوعي لمنظور إستراتيجي وتكتيك، حيث اصبح التكتيك والمراوغة التكتيكية هي الإستراتيجية الراسخه في الوعي العام للنخب وللعامة، وتحول الفدائي والمقاتل الصلب الذي كان يستهدف الوطن إلى محارب يتبنى شعارات المرحلة، وقوانين التفاعل مع الواقع الذي أثر فيه بشكل مباشر فكرة قبول دولة الكيان كواقع قائم، وتوقيع بعض الإتفاقيات والتفاهمات العربية – الإسرائيلية كما حدث في الأراضي المحتلة الفلسطينية عبر أوسلو، وكما حدث في الأردن عبر وادي عربة، وفي لبنان بعد حرب تموز وانسحاب قوات الاحتلال من الجنوب اللبناني، ومن ثم تحقيق بعض المكتسبات السياسية لبعض القوى التي كانت ترسل مقاتليها لداخل العمق الصهيوني، فأصبحت مقاومتها المسلحة مرتكزة على ردة الفعل من جهة، وداخل إطار حدودها التي تم رسمها بإرادة المحتل عبر ما ذكرناه سابق. وتراجع الفهم الشمولي للمقاومة العربية التي انحصرت في حزب الله اللبناني الذي تحول لحارس لبناني يقف كقوة ردع دفاعية عن حدود لبنان، وأيضًا انحصار العمل المسلح الفلسطيني في بقعة غزة كردة فعل على أي محاولة اعتداء صهيونية على غزة، وتحول حرة حماس من قوة مقاتلة لحزب سلطة يدافع عن مكتسباته السياسية في داخل العمق السياسي الدفاعي فقط، وترويض حركات المقاومة الفلسطينية الأخرى التي تبنت نفس السياسات ونفس الإستراتيجيات الدفاعية.
من خلال هذا الفهم وهذه المفاهيم الجديدة أصبح هناك فارق شاسع بين الفهم العملي للمفاهيم الإستراتيجية التي تبنى الآن على الحفاظ على المكتسبات السياسية فقط من جهة، وديمومة القوى السياسية من جهة أخرى، دون الإرتكاز في الفعل على مفاهيم( التحرير) بما أن انسحاب قوات الإحتلال من جنوب لبنان يعتبر تحرير بالنسبة للمقاومة العربية، والإنسحاب من غزة تحرير بالفهم الفلسطيني، والتحول الشامل بالفهم التكتيكي الذي كان يقوم على بناء الإنسان لعملية التحرير، وتهيئة البيئة الكفاحية التأهيلية لعملية التحرير، والتي كانت أهم نتائجها كتكتيك مستحدث هو هدم الحافزية التحررية للإنسان الذي يعتبر أصل عملية التحرير، وارتباطه وثيق الصلة بالوعي الاقتصادي القائم على (الراتب، الحوافز، المخصصات، السلطة، المكانة، الوجاهة) وهي الحوافز والعوامل التي هدمت الجزء الأعظم من الإستعدادية التضحوية في داخل هذا الإنسان الذي كان لا يهاب حجم التضحية ونوعها.
لذلك فإن شعار التحرير لم يعد فعليًا شعار تحرري من صلب العقيدة الإيمانية بالتحرير بعيدًا عن اللغة الشعاراتية الخطابية التي نسمعها في المهرجانات والإحتفالات الجماهيرية أو الحماسية، ما يدور في الوعي الحالي بعيد كل البعد عما يدور في الواقع والوعي القديم، لذلك فإن القضية الفلسطينية لم تتراجع إستراتيجيًا في المطلبية الحاضنة لها، بل في ذهن المواطن العربي الذي اصبح يتقبل قبول فكرة التطبيع مع الكيان الصهيوني سواء اقتصاديًا أو سياسيًا أو في أي مجالات من المجالات، بل في استقبال الوفود والقادة الصهاينة في البلدان العربية. فإن كان لازال هناك بعضًا من الحياء في التفاعل في تلك الحقبة فالمتوقع مستقبلًا أن ينجلي هذا الحياء ويتحول لوقاحة علنية كما يحدث في عًمان، في الإمارات، في البحرين، في قطر، في تونس الدول التي تبني علاقات غير مباشرة مع دولة الكيان عبر الزيارات والتعاون بأشكال شتى سواء رياضية أو اقتصادية أو ثقافيةة، بعدما قطعت مصر والأردن وم ت ف الطريق بعقد اتفاقيات مباشرة مع دولة الكيان، وكما يحدث في التفاهمات الواضحة والجلية بين حركة حماس وحركات المقاومة الفلسطينية ودولة الإحتلال الصهيوني وإن كانت تتم عبر وسطاء أي بشكل غير مباشر، ولكن الشيء المباشر أن ما يدور حاليًا هو عملية تكاملية للإستراتيجية الجديدة وهي التفاوض غير المباشر في إطار مشروع متكامل يطل بقوة على المنطقة العربية، والقضية الفلسطينية التي تعتبر أهم مدخل لاستكمال حلقات هذا المشروع الذي يعتبر الإقتصاد سلاحه الفاعل والناجز كما تمثله دولة قطر حاليًا.
إذن فالفوارق تتسع في الوعي العام بين الفهم السابق للإستراتيجية المقاومة، وبين الفهم الحالي للإستراتيجية المقاومة التي تعتمد على معايير ومفاهيم مختلفة كليًا.
د. سامي محمد الأخرس