ليس هناك أدنى شك في أن شرارة الحرب الدولية ضد الفلسطينيين قد انطلقت، وأن جذوتها قد اشتعلت واتقدت، وأن جمرها قد التهب واشتد في مواجهة الفلسطينيين وأحلامهم والتصدي لطموحاتهم، للحد من قدراتهم ومنع اندفاعهم، وتفكيك تنظيماتهم وسحب سلاحهم، وهذا كله من ضمن مفاعيل صفقة القرن التي بدأت فعلاً في التنفيذ ، وعلى كل طرفٍ مشاركٍ في هذه الصفقة أن يلتزم بما يملى عليه ويطلب منه، تمويلاً وتنفيذاً، وسياسةً وقوانين، سراً وعلانيةً وطمعاً ورهباً، تحت طائلة العقوبة والحرمان، وربما العزل والإقصاء، أو الطرد والخلع، والسجن والمحاكمة.
وعلى الفلسطينيين بموجبها في كل مكانٍ أن ينسوا وطنهم فلسطين، وأن يقلعوا عن حلم العودة إليه والإقامة فيه، وأن يتوقفوا عن حلم الدولة والسيادة والعلم، وأن يتهيأوا للتوطين في بلادٍ كثيرة، وأن يستعدوا للتجنس بجنسياتٍ مختلفةٍ، تغنيهم عن الجنسية الفلسطينية، وتنسيهم إياها وتعوضهم عنها، يتمتعون بها بحقوقٍ مدينةٍ وسياسية، ولا يشكون فيها من فقرٍ أو حرمانٍ، ولا يعانون من عزلٍ أو تمييزٍ، بل يكونون مواطنين متساوين في حقوقهم مع مواطني الدول التي سيحملون جنسيتها.
وقد اتخذت المواجهة الدولية ضد الفلسطينيين عموماً في الوطن والشتات وفي دول اللجوء والإقامة، أشكالاً خشنةً وصوراً بشعةً، تتناقض وحقوق الإنسان، وتتنافي مع المعايير والقوانين الدولية المرعية الإجراء، تجاه شعوبٍ قد احتلت أوطانها وأغتصبت حقوقها.
فقد انتظمت دول الشر واتحد تحالف الباطل بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ضد الشعب الفلسطيني كله، وبدأ التحالف حربه على الفلسطينيين، فارتكب في أقل من عامين ما لم يرتكبه العدو الصهيوني على مدى سبعين عاماً، رغم أنه سبب البلاء وأساس الفتنة، والمسؤول عما نحن فيه من نكبةٍ وأزمةٍ، وهو شريكٌ في الحلف، وعضوٌ أساسٌ فيه.
القدس تُعلن عاصمةً أبديةً موحدةً للكيان الصهيوني، وسفاراتُ دولٍ عديدةٍ تنتقل إليها، والأونروا تكاد تعلن إفلاسها، وتباشر في أوسع حملة تقشفٍ وتوقفٍ عن تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية للاجئين الفلسطينيين، وتقود الإدارة الأمريكية حملةً دوليةً لنفي صفة اللجوء عن مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، في الوقت الذي توقف فيه دعهما المالي لمؤسسات مدنيةٍ فلسطينية، وتغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وتلغي تأشيرات الدخول للعاملين فيه، وتسحب إذن التجوال والدخول إلى المؤسسات الأممية من ممثلي فلسطين في الأمم المتحدة، ثم تحاول عنوةً خارج إطار القانون تسليم مواطنٍ فلسطيني إلى سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
وفي الوقت نفسه تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، تبني فيها مستوطناتٍ جديدةً وتوسع القديم منها، وتشق طرقاً التفافية وأخرى للنقل السريع، وتحدد مناطق عسكرية تمنع الاقتراب منها والإقامة فيها، وتدمر قرىً فلسطينية بأكملها، وتطرد أهلها منها، وتصادق المحكمة العليا على هدم عشرات المباني المقدسية ومئات الشقق، بينما تواصل اعتقال آلاف الفلسطينيين وتقتل من تشتبه فيهم، صغاراً كانوا أو كباراً، ورجالاً أو نساءً، وتواصل حصارها لقطاع غزة، وتعمل على فصله كلياً عن عمقه الفلسطيني، وتحرم سكانه من كل سبل العيش الكريم والحياة الإنسانية.
وفي دول عربية مختلفة، يعتقل فيها فلسطينيون مدنيون، مقيمون وموظفون، وافدون وزائرون، يبقى بعضهم في سجونها مغيبين، بينما يطرد آخرون في ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ، دون أن يتمكنوا من جمع حاجاتهم أو تسوية أمورهم، أو استخراج مستندات أطفالهم أو بيع ممتلكاتهم.
وفي الوقت نفسه يقتل في سجون غيرها آخرون لا ذنب لهم ولا جريرة عندهم، سوى أنهم اشتبهوا في انتمائهم وشكوا في لائهم، فزجوا بهم في سجونٍ غير قانونية، وأخضعوهم لتحقيقٍ وتعذيبٍ غير إنساني، إلى أن فارقوا الحياة غرباء مجهولين بعيداً عن وطنهم، ولم يكلفوا أنفسهم عناء نقلهم إلى أهلهم لكريم دفنهم، أو إصدار بيانٍ مسؤولٍ يوضح حالتهم ويبين أسباب وفاتهم وملابساتها.
وغير بعيدٍ يصدر وزير عملٍ في حكومةٍ عربيةٍ أخرى قراراً بحرمان الفلسطينيين مما تبقى لهم من فتات عملٍ في بلاده، ويفرض عليهم شروطاً قاسية، ويصر على معاملتهم كالغرباء الوافدين أو الأجانب المقيمين، وكأن لسان حاله يقول لهم ارحلوا عن بلادنا، وغادروا أوطاننا، فنحن لا نريدكم ولا نرحب بكم، وهاكم دول أوروبا تستقبلكم وترحب بكم، فاذهبوا إليها بعيداً عنَّا فنحن لا نحبكم.
وفي الجوار القريب يضيق الحصار على سكان قطاع غزة، ويضغط أهله ويحشر سكانه، وتجري معاملتهم في الدخول والخروج بطريقةٍ غير لائقةٍ، فضلاً عن معاناة السفر وقسوة الإجراءات وطول الطريق، والكلفة العالية والأجور المرتفعة، وحالات منع الدخول أو المغادرة، وعمليات الحجز في المطار والترحيل والمواكبة، وغير ذلك من الاجراءات التي من شأنها تيئيس الناس وحرمانها من الأمل، ودفعها للمغادرة بلا عودة، أو العودة إلى القطاع محبطة يائسة لا خلق لها ولا روح عندها.
قاتل الله هذا التحالف وقاتل أطرافه، إنه تحالف شرٍ وحلفٌ باطلٍ، وجمعٌ شريرٌ وقائدٌ خبيثٌ، ولقاءٌ فاسدٌ وإطارٌ مريضٌ، نسأل الله عز وجل أن يفكك عراه وأن يبطل دعواه، وأن يجنبنا شروره ويبعد عنا أذاه، وأن يرد كيده إلى نحره وسهمه إلى صدره، وأن يجعل تدميره في تدبيره وآخرته في تخطيطه، إنه سبحانه وتعالى نعم المولى ونعم النصير، وهو على كل شيءٍ إذا يشاءُ قدير.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 24/7/2019