لم يتوقف العقل الإنساني ومنذ القدم، عن رسم الشخصيات الخيالية واختلاق القصص المرعبة التي تقود الى بناء حاجز رعب وخوف قد تشكل عقدة نفسية في كثير من المحطات وعند كثير من الحالات. وقد مورس الخداع الخيالي واختلقت اخطار وهمية في مراحل زمنية مختلفة بهدف السيطرة على مجموعة بشرية معينة او لتمرير مشاريع باطنية لا تجد طريقها الا من خلال ربطها "بفزاعة" وهمية تتخذ أشكالا مختلفة..
وعلى صعيد الافراد، تمارس أساليب تربية خاطئة من خلال اختلاق وسائل سيطرة تشكل نقطة ضعف وهمية بالنسبة للأطفال، بل تصبح في كثير من الأحيان سلاحا وهميا وفعالا للسيطرة والتحكم بمجرد استحضار بسيط لشخصية خيالية توضع في سياق سيناريو وهمي لا يتعدى لحظات بسيطة من التأمل البسيط.
ومثال ذلك شخصية "أبو كيس" المشهورة في بعض المجتمعات والتي شكلت مصدر رعب وخوف تطورت في كثير من الأحيان الى عقدة نفسية قضت على شخصية واستقلال الكثير من الذين وقعوا ضحية أسلوب التربية الفاشل، الذي يقوم على الترهيب والسيطرة العقلية والنفسية دون الاخذ بعين الاعتبار التأثيرات الجانبية والسلبية لمثل هذه الأساليب، أما الأخطر من ذلك فهو التمادي في استخدام هذا الأسلوب حتى يصبح في بعض الأحيان أداة لبعض الذين أدمنوا حب السيطرة والتحكم مستغلين نقطة ضعف الآخرين.
وإن سلمنا جدلا في إمكانية استخدام تلك الخدع النفسية لتمارس على الافراد او مجموعات من الناس تؤمن بالغيبيات وتستسلم لأساطير لا تتعدى الدجل والكذب، لكن اذا كان لهذا الاساليب مكان في العصور البطريركية ومجتمعات ما قبل الحضارة، فهل يعقل ان تستغل هذه الأساليب في السيطرة على بلد بقراراته وسياساته؟!
لا يستطيع اي متابع لمسيرة "الرايخ الثالث" في المانيا وما نتج عنها في ظل الحكم النازي من مآسي وويلات كلفت العالم بأسره ملايين الضحايا وتركت حزنا وغضبا في نفوس الملايين من الذين ذاقوا ويلات الديكتاتورية على يد العنصريين والفاشيين. ولعل المحرقة النازية "الهولوكوست" التي قيل انها حدثت في المانيا ضد اليهود، تمثل احد ابرز وسائل القتل الممنهجة والمنظمة التي ارتكبت في العهد النازي بالإضافة الى القتل والتعذيب والاجرام الذي ارتكب بحق آلاف آخرين من الأوروبيين، وغيرهم من الذين شهدوا مرحلة الفاشية الكبرى التي أدت في نهاية المطاف و جراء نيرانها اللاهبة، الى إحراق ذاك الشعار النازي الذي رافق جدران ومنصات الرايخستاغ لسنوات عديدة.
ولعل الازمة التاريخية التي مر بها اليهود في الدول الأوروبية، سلطت الضوء أكثر على تلك "المحرقة"، ولكن أن تتحول "الهولوكوست" التي ترافقت وعلى الدوام مع مصطلح "معاداة السامية" الى "أبو كيس" الذي يشكل عقدة نفسية داخل البوندستاغ الألماني، والذي يستخدم سياسيا لإسكات جميع الاصوات التي تنتقد الممارسات الاجرامية للحركة الصهيونية، فهو أمر غريب ومستهجن، خاصة وان اختلاق رابط عضوي بين اليهودية والسامية والصهيونية ، هو محض دجل وكذب من صنع المخيلة الصهيونية، ولعل اكثر العارفين بهذه الحقيقة هم انفسهم الذين يتصدون لكل ما هو ديمقراطي ومناهض للعنصرية والصهيونية.
لم ينكر العالم المعاصر بشكل عام، والشعب الفلسطيني بشكل خاص، وجميع من يدعمه من حركات وناشطين وحقوقيين، المعاناة التي مر بها اليهود خاصة في ألمانيا على يد النازيين، والتي لم تكن معزولة عن سياسات المنظمات الصهيونية سواء في علاقاتها بالامبراطوريات العالمية او باليهود انفسهم وجعلهم اسرى لأساطيرها وزخرفاتها التاريخية بكره المجتمعات الاوروبية لليهود لكونهم يهودا فقط، بل دأب المثقفون والسياسيون الفلسطينيون وفي كل مناسبة على الشرح والتأكيد لمدى الإدراك الفلسطيني الواعي للفرق وكيفية التمييز بين الصهيونية كحركة استيطانية تحمل أفكارا استعمارية وتعتبر امتدادا لمصالح الامبريالية العالمية، وبين اليهود كشعب. ولم يوسم الشعب الفلسطيني يوما نضاله بأية اعتبارات دينية، بل على العكس تماما، لم يعش اليهود وفي أي زمان كان في أمن وإستقرار محفوظي الحقوق، كما عاشوا في فلسطين وبين أبناء الشعب الفلسطيني قبل نكبة عام 1948..
وأكثر من ذلك، لا يخفي بعض اليهود حقيقة أن الفلسطينيين إستقبلوهم في حين كان محرما على اليهود وفي بعض البلدان الأوروبية إشهار ديانتهم بشكل علني. كما إستطاعت الحركة الوطنية الفلسطينية وفي وقت مبكر وضع عناوين عريضة لطبيعة الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني، باعتباره صراعا ضد قوى استعمارية كولونيالية، ارتكبت مجازر لا تقل فظاعة عن تلك التي ارتكبت على أيدي النازيين، وصراع حقوق وطنية بحتة، كما جاءت حركات المقاطعة العالمية التي تساند نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية لتؤكد على الوعي العالمي أيضا بطبيعة الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني وطبيعة العدو الذي يحتل فلسطين ويمارس أبشع وأفظع أساليب القتل والاعتقال والتهويد ومصادرة الأراضي وغيرها من الممارسات التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية أمام مرأى العالم أجمع.
لقد استطاعت الحركة الصهيونية وبدهاء مدروس، المزج والخلط وعلى امتداد سنوات عديدة، بين الصهيونية واليهودية، لا بل برعت في اعطاء الصهيونية مسحة دينية عبر استخدام بعض المزاعم الدينية عن حقوق لليهود في فلسطين، بالإضافة لاستخدامها مصطلح "معاداة السامية" كستار تخفي وراءه حقيقتها وممارساتها الإجرامية بحيث أصبحت "اللاسامية" وربطها بإنتقاد الحركة الصهيونية تمثل "أبو كيس" في أوروبا بشكل عام وألمانيا بشكل خاص، والتي تخيف العديد من الصحافيين والكتاب والمثقفين والباحثين والمختصين الأوروبيين والعالميين. وقد مورس هذا الخداع والتضليل لفترات طويلة في ظل الاحتكارية التي عاشها العالم لوسائل الاتصال، بالإضافة للسيطرة على وسائل الاعلام من الحركة الصهيونية خاصة في أوروبا، ولكن ومع نهوض العالم بثورته التكنولوجية الحديثة والذكية، والتي استطاعت تحويل أشخاص يمتلكون هواتف ذكية، الى مراكز اعلامية متنقلة، تستطيع ان تنقل وان تنشر ما يرونه وما يدور في خاطرهم، الامر الذي شكل سلاحا بيد الفلسطينيين، خاصة وان الانفتاح الإعلامي وضع المشهد الفلسطيني امام الآلاف من كاميرات الهواتف الذكية التي استطاعت وفي فترة زمنية وجيزة نقل حقائق الاجرام الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني وارضه وحقوقه الوطنية، وهذا ما أدى الى ارتفاع كبير في نسبة المؤيدين للقضية الفلسطينية، خاصة في أوروبا وأميركا حيث شكلت هذه البلدان لفترات طويلة معاقل الصهيونية الإعلامية.
وقد أدت طريقة تصدير المشهد الميداني الفلسطيني بحقائقه، الى إزالة الغشاء الذي صنعته الحركة الصهيونية على عيون وعقول الرأي العام الأوروبي والعالمي، مما شكل نقلة نوعية أخرى، سجلت لصالح الفلسطينيين والتي تمثلت بحضور عدد كبير من النشطاء والحقوقيين
الأوروبيين الى الأراضي الفلسطينية المحتلة، والاطلاع على الوضع الفلسطيني ميدانيا واكتشاف حقيقة الحركة الصهيونية كحركة استيطانية استعمارية، مما طور موجة التضامن مع الشعب الفلسطيني، الى حركة تضامن واسعة الانتشار تعرف اليوم بحركة مقاطعة إسرائيل ال (بي د س)، والتي صنعت من نفسها منبرا عالميا منتشرا في معظم دول العالم، يعكس آلام ومعاناة الشعب الفلسطيني ويفضح حقيقة الممارسات الاجرامية التي تقوم بها الحركة الصهيونية.
وبمساعدة النشطاء والمؤسسات والجاليات الفلسطينية، استطاعت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات من "إسرائيل" ال (بي د س)، توجيه العديد من الضربات الموجعة والمهمة الى الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني، والتي تمثلت بشكل رئيسي بوسم جميع المنتجات التي تنتج عن المستوطنات الصهيونية المقامة على الأراضي الفلسطينية، في بعض الأسواق الأوروبية، ودفع بعض البرلمانيين الأوربيين على تقديم مشاريع لقرارات تجرم استيراد وشراء البضائع الإسرائيلية المنتجة داخل المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما حدث في البرلمان الايرلندي، وتحشيد الرأي العام الأوروبي وتوعيته لمقاطعة تلك المنتوجات بإعتبارها منتجات غير شرعية، ألامر الذي ساعد الشعب الفلسطيني على إنتزاع القرار الاممي 2334، الذي يدين الاستيطان على الأراضي الفلسطينية بإعتباره نشاطا يخالف قرارات الشرعية الدولية، بالإضافة لتحشيد الرأي العام العالمي حول قضة الاسرى الفلسطينيين ومعاناتهم، وحث الكثير من الفنانين، والرياضيين العالميين، والمثقفين، والادباء، والكتاب والصحفيين، ومقدمي البرامج، والمستثمرين، وشركات الأمن والزراعة، وغيرهم، الى مقاطعة النشاطات التي تنظم في "إسرائيل" او الامتناع عن الاستثمار داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما أدى الى خسائر مادية ومعنوية باهظة تكبدها الاحتلال، بالإضافة الى إسقاط قناع البراءة والمظلومية التاريخية، التي استغلتها الحركة الصهيونية لاضطهاد وقتل وتشريد الشعب الفلسطيني، فكان لا بد من اشهار "الفزاعة المعتادة" التي تشكل تاريخيا عقدة نفسية لدى الأوروبيين بشكل عام والالمان بشكل خاص.
إن جميع النشاطات وحملات المقاطعة التي تقودها حركة ال (بي د س)، تندرج في إطار قرارات الشرعية الدولية، والتي تعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه، وفي دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، بعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين وفقا للقرار الاممي 194 ، أي ان النشاط التضامني الذي تقوده حركة ال(بي د س)، ينسجم مع المفهوم الدولي حول القضية الفلسطينية كما ينصب الانتقاد على الخرق الإسرائيلي المتكرر لهذه القرارات الدولية، بالإضافة للمفاهيم العالمية المتعلقة بحقوق الشعوب في العدالة وتقرير المصير والاستقلال والحرية. كما ان مجمل النشاطات التي تتبناها وتشرف على تنظيمها حركة المقاطعة، توجه بشكل رئيسي الى الاحتلال والاستيطان الصهيوني، أي في الاطار السياسي المحض، وليس له علاقة لا من بعيد او قريب بإنتقاد اليهودية كدين، بل والأكثر من ذلك يشارك الكثير من المثقفين اليهود حول العالم، في نشاطات حركة المقاطعة ال (بي د س)، أمثال الأستاذ الجامعي الامريكي نورمان فينكلشتاين، المتزلجة الامريكية أرييل جولد، الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، الصحفية عميرة هاس، الصحفي جدعون ليفي وغيرهم من الذين لم يتوانوا عن فضح الممارسات الصهيونية الاستيطانية على الأراضي الفلسطينية، والداعين لمقاطعة إسرائيل، لانتهاكها الدائم لمنظومة الاخلاق الأممية وقرارات الشرعية الدولية.
وعليه، الى متى ستبقى "اللاسامية" عقدة نفسية لدى البوندستاغ، وهل الشعور بالذنب عن مرحلة تاريخية معينة، ارتكبت خلالها العنصرية ضد شعب معين، تبرر التغاضي وتبرير عنصرية هذا الشعب على شعب آخر وإستمرار إحتلاله ومصادرة أراضيه وتهويد مقدساته؟؟
والى متى سيبقى "أبو كيس" الصهيوني متربعا على منابر البرلمان الألماني، حارسا على أفواه جميع الأصوات الحرة التي تنادي بالعدالة والحرية للشعب الفلسطيني؟
إن إقدام البرلمان الألماني، بتاريخ 17/5/2019، على إقرار مشروع قانون يعتبر حركة مقاطعة إسرائيل ال (بي د س) حركة "مناهضة للسامية" وبالتالي تجريم نشاطاتها داعيا الحكومة الألمانية الى عدم تمويل او دعم أي مؤسسة تتعاون او تشارك في نشاطات تنظمها حركة المقاطعة، بالإضافة الى اتخاذ مجموعة من البلديات في مناطق المانية مختلفة، قرارا يقضي بسحب القاعات، وإيقاف نشاطات تنتقد الممارسات الصهيونية العدائية ضد الشعب الفلسطيني، هي سابقة خطيرة في تاريخ ألمانيا المعاصر، خاصة وان القانون الألماني الذي كسر قيد العنصرية التي رسمت له في الرايخستاغ، سعى ومنذ تأسيس البوندستاغ الى تكريس الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، والحق في النشاطات والانتماء للأحزاب،
كما ان الاستسلام للعقدة النفسية التي كرستها الحركة الصهيونية، والتي تقودهها مجموعة المؤسسات والجاليات اليهودية في ألمانيا لإخفاء جرائمها، لن يعود الا بالفضيحة على الديمقراطية الألمانية. فالعالم اليوم أصبح فضاءا مفتوحا للجميع، والممارسات الصهيونية التي تضرب بعرض الحائط جميع المواثيق والقرارات الدولية، أصبحت أمام اعين الملايين من المتابعين للقضية الفلسطينية، والنشطاء المهتمين بمناصرة العدالة والحق والحرية، وان الشعب الفلسطيني سيبقى متمسكا، ومعه جميع المؤمنين بالإنسانية والعدالة والحرية ، بحقه في مواجهة غطرسة الاحتلال، وفضح اجرامه، في جميع العواصم العالمية، ومن على جميع المنابر الثقافية والفنية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا يتطلب من البرلمان الألماني تجاوز هذه العقدة النفسية، والنظر الى الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية وفقا لما حددته قرارات الشرعية الدولية ومنظومة الاخلاق العالمية، بعيدا عن قصص الخيال الباطلة التي تستخدم زورا من قبل الحركة الصهيونية، وحتى لا يبقى "أبو كيس" الصهيوني ممسكا على رقبة أحد أهم البلاد المؤسساتية والتي تدعي رعاية الديمقراطية في العالم.
بقلم/ جهاد سليمان