الوحيدة التي استثمرت فعلياً الفوضى الناتجة عن كوارث الأزمات العربية منذ العام 2011 سياسياً واقتصادياً دون خسائر ملموسة هي اسرائيل، وكأن الربيع جاء من أجلها!
ولعل أبرز نواتج الكوارث العربية هي مآلات الحرب في سوريا، البلد الذي كان يعد ممرًّا استراتيجيًّا وعنق زجاجة لطرق التجارة ونقل الطاقة و الأمن الغذائيبين أوروبا والشرق ..
الأردن/ العراق/ دول الخليج/ تركيا/ أوروبا الشرقية/ روسيا ، جميعها كانت تعتمد على الممر السوري بموانئه المختلفة لاستيراد وتصدير المواد الغذائية والبضائع. ومع انتشار الفوضى في البلاد وطول مدة الأزمة وتداعياتها توقف معظم هذه الموانئ البرية والبحرية. ولأن للحرب وجهان قبيحان : الأول مآسي وخسائر، والثاني مكاسب على حساب الأول. فخرجت سوريا من تموضعها كمركز للربط التجاري بين الغرب والشرق بعد تعديل طرق التجارة التي كانت تمر بها، وأصبحت اسرائيل هي البديل الأكثر أمانا والأرخص تكلفة للسفن القادمة من الغرب .
باتت سفن الشحن المحملة بالبضائع التركية والأوروبية تصل ميناء حيفا، ومنها تنقل عبر قوافل من الشاحنات المؤمنة بالشرطة إلى الأردن والعراق والمملكة السعودية وباقي دول الشرق في سرية تامة، لتتحول معها اسرائيل الى مركز للاستيراد والتصدير الاقليمي ليس فقط بديلا عن سوريا بل وعن مصر أيضاً. فعلى الرغم من أن البضائع تتعرض لعملية تفتيش اسرائيلية دقيقة بعد إنزالها في ميناء حيفا، الا ان المصدرين والمستوردين يفضلون هذا الطريق عن الطريق البري الموازي للبحر الأحمر لأنه أقل في التكلفة وفي الوقت.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فبدأت العقول الاسرائيلية تفكر في كيفية استثمار هذا التغيير الجيوسياسي ، وعلى الفور استحضر وزير الاستخبارات ووزير النقل السابق ووزير الخارجية الحالي "يسرائيل كاتس" حلماً قديماً بانشاء خط سكة حديد يربط بين البحر المتوسط والخليج العربي ودوله وينطلق من اسرائيل، ويقوم هذا الخط بنقل البضائع من وإلى الغرب والشرق. ولعل الاعلان عن المشروع بالتفصيل من قبل "كاتس" في المؤتمر العالمي للاتحاد الدولي للنقل الذي عقد في سلطنة عمان في العام 2018 ،كان له دلالات واضحة إذ جاء تزامناً مع النشاطات الاسرائيلية في الدول الخليجية آنذاك وإعطائها دعماً وزخماً.
المشروع / الحلم الصهيوني/ يضم شبكة من السكك الحديدية تنطلق من ميناءي اسدود وحيفا وتعبر موانئ الاردن والعراق والسعودية والامارات وسلطنة عمان . ولا مانع إذا أراد الفلسطينيون / أن يلحقوا بالركب / فتتصل شبكة السكك الحديدية هذه بمدينة جنين حسب ما يوضحه المخطط الاسرائيلي!! وفضلا عن مليارات الدولارات من العائد الاقتصادي للمشروع فإن العائد السياسي له أكثر اهمية بمراحل. لأنه يعيد تشكيل المنطقة بعيداً عن ايران وتهديدها لمضيق هرمز، ولبنان وصداع حزب الله، وسوريا المستباحة وكوارثها طويلة الأمد، وفلسطين القضية المنسية في حسابات الربح والخسارة! والأهم أنه يربط اسرائيل بإحكام أو الأجدر بالقول يربط الدول العربية اقتصاديا وسياسيا بإسرائيل مركز الشرق الاوسط المستقبلي!
لا تعتقدوا أنهم يجتمعون لمناقشة أوضاع سياسية أو مشكلة فلسطينية ، لقد تجاوزوا ذلك بخطوات بعيدة.. إنهم يخططون كيف يمكن جني الثمار القادمة ؟..
قبل حوالي مائة عام في زمن السلطان عبد الحميد الثاني ، لم يكن هناك اسرائيل، كانت فلسطين وكان اسم سكة الحديد "سكة الحجاز" وامتدت من دمشق الى المدينة المنورة مارة بالأردن وفلسطين لنقل الحجاج من بلاد الشام الى المدينة المنورة ! أي حجاج ستنقل سكة السلامة الجديدة؟؟
بقلم د. أماني القرم