للخروج عن أصول العمل الدبلوماسي حدود، أما أن تصل الأمور لحد أن يهين ممثل الولايات المتحدة مجلس الأمن والأمم المتحدة والقانون الدولي، ويحاول أن يستبدل ذلك كله بآرائه وآراء سيده دونالد ترامب، فهذا ما لم يتوقعه أحد وقد لا يتكرر أبدأ. وإذا كان السيد جاسن غرينبلات، مندوب الرئيس الأمريكي لعملية السلام في الشرق الأوسط، ينظر بهذا المستوى من الازدراء للقانون الدولي، فلماذا يحمّل نفسه عناء السفر من واشنطن إلى نيويورك ليلقي كلمة بلاده في المجلس؟ فبعد رحيل مندوبة الولايات المتحدة صاحبة الكعب العالي نيكي هيلي، بدأ غرينبلات يلقي كلمة الولايات المتحدة في الاجتماع الشهري المخصص للأوضاع في الشرق الأوسط، بما فيها القضية الفلسطينية. وإذا كانت هيلي قد جعلت الدفاع عن إسرائيل قضيتها الأولى، فإن غرينبلات ذهب بعيدا في موضوع التهكم حتى على مجلس الأمن الذي يجلس على مقعد بلده الدائم.
جاء خطاب غرينبلات يوم الثلاثاء 23 يوليو علامة فارقة حول مدى استهتار إدارة ترامب وممثليها المتعجرفين بالأمم المتحدة، خدمة لإسرائيل فقط، لا خدمة للمصالح الأمريكية.
يلتئم مجلس الأمن مرة في الشهر ليستمع إلى تقرير مفصل من ممثل الأمم المتحدة في الأراضي المحتلة، حول التطورات الميدانية التي تشمل الأوضاع الإنسانية، والإعتداءات وهدم البيوت، ومصادرة الأراضي والاقتحامات، واستهداف المدنيين واعتداءات المستوطنين. ويشمل التقرير الشهري أي نوع من التحريض، أو تمجيد الشهداء أو إضفاء صفة البطولة على كل من يتعرض لقوات الاحتلال. ومنذ أن تسلم البلغاري نيكولاي ملادينوف منصب الممثل الخاص للأمين العام في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنسق عملية السلام، تغير الخطاب الشهري، مركزا على الانقسام الفلسطيني والتحريض، وانتهاكات الفلسطينيين، لكنه يكرر بشكل آلي مجموعة كليشيهات حول عدم شرعية الاستيطان، ومصادرة الأراضي. لكنه يغمض عينيه عن السجناء والأطفال المعتقلين والجدار العنصري، وقوانين الكنيست العنصرية، واعتداءات المستوطنين، كما أنه لا يستخدم مصطلح الإدانة، حتى لو كان هناك هدم لمئة شقة في «صور باهر» صباح الاثنين 21 يوليو، وتشريد نحو 500 مواطن، غالبيتهم الساحقة من الأطفال، بل تغريدة يتيمة على حسابه في تويتر يقول فيها: «رغم مناشدة إسرائيل بعدم الهدم إلا أنها نفذت عملية هدم بنايات سكنية في صور باهر ما أدى إلى تشريد الكثير من العائلات الفلسطينية. إن معاناتهم لا يعوضها أي كمية من المساعدات الإنسانية. على إسرائيل أن توقف هذه السياسة». هذا ما صدر عنه بدون إدانة أو شجب أو حتى التعبير عن القلق.
إذن جاء اجتماع مجلس الأمن يوم الثلاثاء ومجزرة هدم المباني في وادي الحمص في صور باهر، تلقي ظلالها على الاجتماع. وكان من المتوقع أن يكون موضوع الهدم وتشريد السكان هو الموضوع الرئيسي، سواء من ممثل الأمين العام، أو من قبل الدول الأعضاء، لكن الغريب أن ملادينوف لم يقدم التقرير الشهري كما جرت العادة، وقامت وكيلة الأمين العام للشؤون السياسة، روز ماري دي كارلو، بتقديم التقرير وهو في العرف الدبلوماسي مستوى منخفض. وبعد مداخلتها التي تحدثت فيها بإسهاب عن الأوضاع في الأراضي المحتلة، وعن تدمير بيوت وادي الحمص، الذي يعتبر انتهاكا للقانون الدولي، بدأت كلمات المندوبين مبتدئأ بممثل فلسطين السفير رياض منصور، تلاه السفير الإسرائيلي داني دانون ثم ممثل الولايات المتحدة غرينبلات وبعد ذلك تحدث 48 مندوبا.
داني دانون ألقى كلمة مدتها 15 دقيقة، لم يتطرق للموضوع الفلسطيني على الإطلاق، وخصص كل الخطاب للتهديد الإيراني، وراح يفرد خرائطه التوضيحية حول سيطرة إيران على لبنان وميناء بيروت. أما موضوع البحث وهو قضية فلسطين فلم يأت على ذكره لا من قريب ولا من بعيد. وهذه سنة بدأتها نيكي هيلي، التي رفضت أن تستأثر القضية الفلسطينية وعملية السلام في الشرق الأوسط، التي قد تشمل سوريا ولبنان موضوع الجلسة، فراحت تتناوب الأدوار مع داني دانون للحديث عن إيران واختصار مسألة الشرق الأوسط باقتلاع حركة حماس. أما كلمة غرينبلات فقد روج فيها لصفقة القرن، وأثنى على مؤتمر المنامة المدعو «السلام من أجل الرخاء»، وأكد على أن إدارة الرئيس دونالد ترامب لم تفصل بعد رؤيتها لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقال «نأمل أن يقرر الرئيس قريبًا متى يتم إصدار المشروع». لكن أغرب ما جاء في خطاب غرينبلات:
– قال إن الإجماع الدولي لا يعني شيئا، مؤكدا على أن «الإجماع الدولي ليس قانونًا دوليا».
– حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي لن يكون بالرجوع إلى القانون الدولي.
– قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة لا قيمة لها ولا فائدة من الرجوع باستمرار إليها، لأنها صيغت بطريقة غامضة.
– استخدام مصطلح الأراضي المحتلة لن يساهم في حل النزاع بل يعقده.
– استخدم لأول مرة كمسؤول أمريكي مصطلح «يهودا والسامرة» بدل الضفة الغربية كما جرت العادة حتى عند المتعصبين الأمريكيين.
– القدس عاصمة إسرائيل الأبدية ولكن من حق الفلسطينيين أن يحلموا أو يطمحوا بأن تكون القدس الشرقية عاصمة لهم، فالواقع شيء والحلم أو الطموح شيء آخر.
– المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وفلسطين هي وحدها القادرة على حل قضية القدس «إذا أمكن حلها».
– على قادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، إلغاء موقفهم الرافض لخطة لم يروها حتى الآن، وإظهار استعدادهم للمشاركة بحسن نية في الحوار مع إسرائيل. ووصف الخطة بأنها تحتوي على تفاصيل كافية حتى يتمكن الناس من رؤية الحلول التوفيقية الضرورية.
باختصار طالب غرينبلات إلغاء كل ما له علاقة بالقانون الدولي ومرجعـــيات الأمم المتحدة والعودة فقط للمفاوضات المباشرة تحت مظلة هذه الإدارة وصفقتها للسلام والتي ظهر منها من التفاصيل أكثر مما خفي.
يبدو أن هذا الطرح أصاب أعضاء المجلس بالذهول. فالجلسة التي استمرت ست ساعات و12 دقيقة، استمعت بعد خطاب غرينبلات إلى 48 متحدثا، لم يخل خطاب واحد منهم، بمن فيهم مندوب البحرين، من الإشارة إلى القانون الدولي وضرورة التمسك به، وإلا فالعالم سيدخل متاهة لا يعرف كيف يخرج منها، عندما يحل قانون الغاب مكان القانون الدولي. وكان رد السفير الألماني كريستوف هوسغن، الأقوى. والأبلغ عندما وجه كلامه لممثل الولايات المتحدة قائلا: «القانون الدولي ليس صحن مقبلات، تأخذ منه ما تريد وتترك منه ما لا تريد. القانون الدولي مهم وذو صلة وليس عديم الجدوى. إن ألمانيا تؤمن بالأمم المتحدة وبقرارات المجلس، والقانون الدولي ملزم»، ثم ألقى خمسة سفراء من الاتحاد الأوروبي من أعضاء المجلس (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبولندا وإستونيا) بيانا مهما حول صلاحية القانون الدولي وقرارت الأمم المتحدة.
كنا نتمنى لو أن أحد المندوبين وجه الأسئلة التالية لممثل الولايات المتحدة الأمريكية:
– لماذا كنتم تركضون إلى مجلس الأمن عندما تقوم كوريا الشمالية بتجارب صاروخية أو نووية، لتطالبوا المجلس باعتماد رزمة عقوبات جديدة بالإجماع ؟
لماذا ركضتم إلى مجلس الأمن لاعتماد قرار 2118 في 27 سبتمبر 2013 لتدمير ترسانة سوريا من الأسلحة الكيميائية؟ ودافعتم بشراسة عن مهمة سيغرد كاغ التي أشرفت على عملية التخلص من مخزون المواد الكيميائية والمختبرات وآليات الإنتاج في سوريا؟ ولماذا ركضتم إلى مجلس الأمن لاعتماد القرار 1701 (2006) عندما مرغ حزب الله أنف إسرائيل في تراب الجنوب، التي تورطت في حرب خاسرة ولم يكن لها من مخرج إلا مجلس الأمن؟ ولماذا جئتم إلى مجلس الأمن لاعتماد سلة عقوبات على إيران، قبل التوصل إلى الاتفاقية الشاملة التي وقعتها مع الدول الست، ثم عندما توصلتم إلى الاتفاق جئتم إلى المجلس لرفع العقوبات؟ لماذا جئتم إلى المجلس لفرض عقوبات على ليبيا والعراق وصربيا وليبيريا وسيراليون وأفغانستان؟ ولماذا هرعتم إلى مجلس الأمن بعد هجوم 11 سبتمبر لتأخذوا تفويضا بشن حرب دفاعية، كما سميتموها، الحرب على الإرهاب؟
إذن… إذا أرادت الولايات المتحدة أن تلغي أو تزدري القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة فليكن هذا الإجراء شاملا، أي «عليّ وعلى أعدائي» إذن أما أن تكون الأمم المتحدة طبق مقبلات تختار الولايات المتحدة منه ما يناسبها ويخدم مصالحها، وبعد ذلك تبصق في الطبق وترمي به في سلة المهملات، فهذا ما لا يقبله أحد حتى أقرب الحلفاء إلى هذه الإدارة الديماغوجية التي لم تعرف الولايات المتحدة في تاريخها شبيها لها، وأعتقد أنها لن تعود لمثل هذه المجموعة الغريبة التي لا ترى العالم إلا من منظار غلاة الصهاينة.
عبد الحميد صيام
٭ محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي